د. جمال الراوي
يتميّز عصرنا بكثرة الصحائف والكتابات التي يكتبها الناس. وجاء ذوو الأيدي والأبواع القصيرة لخوض ضمار الكتابة، وهم من الذين لا يملكون من وسائلها سوى أقلامٍ مكسورة، وأحبارٍ ناضبة؛ فتجدهم والفرحة لا تسعهم من فرط النشوة التي يلمسونها لكثرة من يتابعونهم، بينما هم يفتشون بين خواطرهم وخزائنهم المُبعثرة؛ فينسجون منها لوحاتٍ يلوّنونها بمعسول الكلام، ومضطرب البيان.. وقد أخبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أشراط الساعة الصغرى، وذكر منها انتشار الكتابة: (... شَهَادَةَ الزُّورِ، وَكِتْمَانَ شَهَادَةِ الْحَقِّ، وَظُهُورَ الْقَلَمِ). وظهور القلم وانتشار الكتابة جاء مرادفاً لقول الزور وكتمان الحق. ولو تصفّحت عالم الشبكة العنكبوتية فسوف يصيبك العجب لكثرة هؤلاء.
للأسف فإنّ الكتابةَ ملاذُ الضائعين والتائهين من أمثالنا؛ لأننا نحاول من خلالها تشذيب شجرة أفكارنا؛ فنقطع عنها الفروع والأغصان التالفة، نكابد من خلالها مشقةً بالغة في ستر مساوئنا، ثم نرفع بها النقاب عن وجوهنا الكاذبة، وندفع للعلن ما نراه صالحًا من الكلمات للعرض، ونخفي وجوهنا الحقيقية؛ فنحاول بقلمنا خطّ صحائف جديدة غير التي يكتبها الملكان الكريمان المُكلّفان بنا!! لا ندري أنّ الفرق شاسع بين صحائفنا وصحائف هذين الملكين!!.. فالملكان لا يباليان بأوراقنا التي نكشفها للناس، فينبشان أسرارنا المكتومة، ولا يتركان شيئًا حسنًا أو سيئًا إلّا ويكتبانه جميعًا بكلِّ أمانة، بينما نحن نختار لصحائفنا المُنمق من الكلام والألفاظ، ونكشف عن الجوانب المريحة في نفوسنا؛ نسعى من ورائها لتزجية الفراغ في ذواتنا، وقد ضاق الوقت علينا فلجأنا لتلك الوسيلة المزيّفة للتعبير عن أنفسنا بعد أنْ فشلنا في رسم الحياة على صفحاتها بين الناس.
(إِنَّ مِنَ البَيَانِ لسِحْرًا)، حديثٌ ورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. وقد رآه بعض العلماء ذمًّا، ووجدوا فيه إشارة واضحة للسحر الذي تحمله الكلمات؛ لأنّها تسحر الأعين والقلوب، فيُفتنون بها. ولأنّ كاتبها يريد صرف الناس عن الحقّ؛ فيدخل في كلماته الرياء، ويخالطها الكذب، ويتكلّف كثيرًا فيما يكتب. وقد ورد في الحديث الشريف: «مَنْ تَعَلَّمَ صَرْفَ الْكَلامِ لِيَسْبِيَ بِهِ قُلُوبَ الرِّجَالِ أَوِ النَّاسِ لَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلا عَدْلاً»؛ لأنّ غايته كانت التلبيس على الناس، وكسب إعجاباتهم، و»لايكاتهم»؛ إذ لا يوافق ظاهرُه بواطنه، ولا تكشف علانيته عن أسراره، فيتشدّق القول، ويتزيّد بالكلام، ويسوّق بضاعته في أسواق مواقع التواصل الاجتماعي؛ ينتظر المسحورين به وبما تخطّه يده، فينقلون منه، ويتحدثون عنه، وقد جعلوا له قدسية؛ يتبعونه، وينتظرون ما سيفاتحهم به من معسول القول، وكأنّهم أصبحوا من المسحورين.
كما ورد في الحديث الشريف: «إِنَّ مِنَ الْقَوْلِ عِيَالاً». وفسّر العلماء كلمة «عيالاً» بأنّها الثقل والمشقة في فهم القول أو الكتابة على السامع أو على القارئ؛ وقد يعود ذلك إلى تفاهة الكلام وصعوبة هضمه، أو لقوة بيانه. وهذا - للأسف - حالنا اليوم، وقد انصرف الكثير منّا عن واحات الأدب والثقافة، مدّعيًا عدم قدرته على فهم مراميها ومعانيها، ولجأ إلى الضحل منها، حتى أصبحت أمّة القرآن جاهلة ولاهية وعابثة، تتبع الغثّ من العلم، بينما الأدباء والعلماء يعرضون بضاعتهم فلا يجدون مَن يشتريها منهم، وقد عرضوها على من لا يُريدها ولا يطلبها؛ فبقيت كاسدة وثقيلة، تنوء بحمْلها الصفحات.
وقد قالت العرب قديمًا: «إذا رأيت السيل فاجتنب جريته»، وهي نصيحة ثمينة، تدعو كلّ واحدٍ منّا إلى أن يبتعد عن التيارات الجارفة، حتى وإن وجد صعوبة في تسلّق الجبال، خاصة أننا في عصر الفورة الإعلامية، والتهويل، والتحوير، والتبديل.. وعلينا أن نتجنّب أن نكون وسط هذا السيل؛ لأنه سوف يجرفنا معه، ولن نستطيع حينها معرفة أين سيرمينا ويقذفنا، هذا إذا وصلنا سالمين؛ لأننا في زمن الفتن والأهوال.. والأيام حُبلى، ولا يعلم إلاّ الله - سبحانه وتعالى - ما تحمله معها!!.. وعلينا أنْ نتجنب هذا السيل الجارف من المنشورات في مواقع التواصل الاجتماعي، ونصعد إلى قمم الجبال حتى وإن وجدنا مشقّة. ولأننا إنْ صعدنا سنرى عجبًا، وسندرك حجم الغثاء الذي يمتلئ به وادي هذه المواقع!!
وقالت العرب أيضاً: «لا تنم في بطنِ وادٍ». وهي نصيحة جاءت حصيلة تجارب كارثية؛ إذ يجد البعض سهولة المبيت في الوديان؛ لأن الأرض تكون منبسطة، والأشجار كثيرة؛ لا يدرون بأنّها مجرى سيلٍ، لا يرون آثاره لحظة مبيتهم. ولأنّ المياه والأمطار تنزل - عادة - في مكانٍ آخر بعيدٍ عنهم، فتأخذ مجراها في الوادي لتجرفهم وتجرف كلّ شيء في طريقها!!.. والبعض منّا يظن أنه يعيش في أمنٍ وأمان، وقد غطّ في نومٍ عميق، يظن أنّ هطول الأمطار في مكانٍ آخر، ولا يدري أنه يرقد في مجرى سيلٍ جارف، وقد ضرب الشيطان على أذنه فلم يعد يسمع هدير الماء القادم إليه!!.. فلنحذر هذه المواقع وكثرة المنشورات، ونبحث عمّا يُنجينا من بطون الأودية؛ فقد ضاع الكثير منّا وهم ينامون مسترخين فيها، لا يدرون أنّ الطوفان قد أخذهم، وأصبحوا من المفتونين ومن الخائضين مع الخائضين!!