م. بدر بن ناصر الحمدان
هل جرّبت يوماً أن تمشي على قدميك في شارع اعتدت أن تسلكه وأنت داخل سيارتك، إن قررت القيام بهذه التجربة ستشعر للوهلة الأولى أن هذا المسار المعتاد يبدو مختلفاً بعض الشيء، ستكتشف تفاصيل كثيرة لم تتعرف عليها من قبل، ومساحات واسعة لم تتوقع أن يستوعبها ذلك المكان، بل ستتفاجأ بنمط حياة الناس التي تملأ ذلك الفراغ ولم تكن تعيشها من قبل، ستبهرك ضخامة الكتل التي تشكلها المباني المتاخمة، وتلك المسافات الطويلة، وسينتهي بك الأمر بالإحساس بضعفك نسبة إلى هذا الحيز المكاني الذي تتواجد في دائرته.
علاقة المقياس الإنساني مع تكوين الفضاء العمراني هي من تتحكم بالتشكيل البصري الذي يحدد إدراك الإنسان للمكان الذي يحيط به، ويقيم فهمه للمفردات المعمارية والعمرانية التي تمثل تركيبة النسيج المبني، لذلك فإن المدن التي تُتيح بيئة مشاة جيّدة تصبح أكثر وضوحاً وفهماً لمن يعيشون فيها، وتحقق مركزاً متقدماً في مستوى أنسنتها، وقابليتها للتفاعل مع الإنسان.
في كثير من رحلات السفر مع الأصدقاء والزملاء كنت أقول لهم دائماً إنه لكي تفهم أي مدينة وتتعرف على تفاصيلها عليك أن تجوبها «حافي القدمين» وهذه عبارة مجازية تُعنى بالتجرد الذاتي والإحساس بمكونات المدينة عن قرب، والاندماج الإنساني مع منظومتها الاجتماعية، والاحتكاك بالناس وسماع أصواتهم وترديد لغتهم، وصولا إلى رائحة الشارع، وتغذية البصر بملامح المشهد العام، هذه أفضل طريقة لبناء خارطة مكانية لوظائف تلك المدينة والاحتفاظ بها في الذاكرة.
الحقيقة التي نتجاهلها اليوم، هي أن الناس لا يعرفون المدن التي يعيشون فيها، لأنهم لم يمشوا في أروقتها، هم مجرد مجموعة من الغرباء يقطنون مكاناً يزعمون أنهم ينتمون إليه، ولكن هذا لا يحدث، كونهم لا يمتلكون أية علاقة مباشرة معه، ساهم في ذلك وبصورة مباشرة التباعد بين استخدامات الأراضي وعدم وجود شخصية عمرانية ممنهجة تشجع على تعزيز التواصل المكاني وترابط أنشطته.
توسع المدن وتمددها وتضخمها نسف أواصر العلاقة بين الإنسان ومدينته، وأقصى مفردة «المشاة» من قاموسها العمراني، لذلك نحن نعود دوماً للاستشهاد بمدن الأمس وأن مجتمعها كان أكثر إنسانيةً، والأمر لم يكن كذلك بل لأن مقياسها العمراني كان أكثر ملائمة.
اخلعوا أحذيتكم وتجوّلوا حفاة في مدنكم، لكي تتعرفوا عليها.