د. عيد بن مسعود الجهني
مفهوم (القوة) العسكرية في العلاقات الدولية بتعريفها المبسط هو القدرة على التأثير في سلوك الآخرين أو التحكم في سلوكهم تجاه قضية معينة للحصول على ما تتوخاها دولة (القوة).
وهي (القوة) أيضاً التي تعد أساساً محورياً لبناء قدرة الدولة لتصبح صاحبة تأثير في معترك السياسة الدولية، خاصة القوة العسكرية.
لكن لا يعني هذا أن محددات القوة محصورة في النواحي العسكرية فقط لتصبح الدولة (أية دولة) صاحبة قوة ونفوذ في العلاقات الدولية، فلا بد من عوامل أخرى ذات تأثير لدفع عجلة القوة العسكرية وفي مقدمتها القوة الاقتصادية وحجم الثروة كالنفط والغاز مثلا الذي يلعب وجودهما لدى دولة كالمملكة دوراً قوياً في معادلة العلاقات الدولية، ناهيك عن الموقع الجغرافي الإستراتيجي ومساحة الدولة وحجم سكانها وحماية الحدود والسيادة وحكمة القيادة السياسية.
هذه بعض المحددات التي إذا توفرت تصنف بها الدول أنها دول قوية، ضعيفة، غنية، أو فقيرة دولة كبرى أو صغرى أو عظمى.
وهذا هو المفهوم السائد في هذا القرن، المشحون بالأحداث الجسام التي قد يخرج من رحمها حرب كونية ثالثة.
ويتعدد مفهوم القوة وفي مقدمة ذلك القوة الصلبة Hard Power فهي بالمفهوم الحديث تعني امتلاك القوة العسكرية التي تعتمد على الإكراه والتأثير بالتهديد والضغط على الدول الأخرى في المنظومة الدولية، وهذا المفهوم يبرز واضحاً في سياسات القوى العظمى خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الروسي، تلك الدولتين العظميين مثلاً حياً لمعيار القوة العسكرية الصلبة التي تمتلك أنواع أربعة تشكل القوة، هي القوة البرية والجوية والبحرية والنووية.
وعلى الجانب الآخر فإن القوة الناعمة Soft Power تلعب هي الأخرى دوراً رئيساً في العلاقات الدولية، وعلاقات الدول بين بعضها البعض على المستويين الإقليمي والدولي، فهي وسيلة ناجعة في مشهد السياسة والعلاقات الدولية، ولذا نجد أن معظم أعضاء المنظومة الدولية تتركز سياساتهم على تطبيق مبدأ القوة الناعمة.
وفي التاريخ السياسي نجد أن ميكافيلي قدم قبل أربعة قرون نصائح ذهبية لأمراء إيطاليا في ذلك الزمن من التاريخ وتتلخص نصائحه بأن يطبق الأمير منهم وسيلة التخويف بتفضيلها على محبة المحكومين، وهذا تطبيق لمفهوم (الدكتاتورية) البغيضة، لذا نجد أن عالمنا اليوم تسير السياسات التي تطبقها معظم الدول على عكس نصيحة ميكافيلي.
فالقائد الملهم هو ذلك الذي يجمع بين صفات متعددة منها الحزم وكسب محبة الشعب وقلوبهم وعقولهم والسهر على راحتهم، وبذا تبرز أهمية القوة الناعمة لتمثل قوة التأثير على الآخرين وجعل المخاطبين يدورون في فلكه، بدون تهديد أو تخويف.
هذا لا يتحقق إلا للقائد المحنك المتسلح بالحكمة وبعد النظر وقوة الشخصية مطبقاً للقيم السياسية القائمة على المبادئ الأخلاقية وحسن السلوك السياسي ليصبح قائداً متمكناً.
القائد بهذه الصفات يستطيع أن يحول القوة الاقتصادية والعسكرية ليصبحا مصدرين ناجحين داعمين للقوة الناعمة، وهذا ما نراه متجسداً في عالم اليوم، عالم التقنية والمعلومات والتقدم والتطور التكنولوجي الذي غزى فيه الإنسان القمر والمريخ والنجوم وسبح في الفضاء.
إذاً في هذا العصر يعتبر مفهوم القوة يختلف بشكل كبير عنه في زمن ميكافيلي، حيث برزت محددات كثيرة للقوة منها القوة الذكية Smart Power لتضاف للقوى السابقة لتصبح القوة الذكية قادرة على المزج بين تلك القوى والجمع بينهما.
وتأتي القوة الكونية Syber Power التي يقصد بها امتلاك المعرفة التكنولوجية والقدرة على استخدامها من خلال الفضاء الإلكتروني بواسطة عنصر بشري خلاق قادر على توجيه تلك القوة لتصبح داعمة للقوى الأخرى، وهذه القوة الجديدة ومن خلال توظيف الفضاء الإلكتروني لتحقيق مزايا عديدة تدخل ضمن القوة الصلبة أو الناعمة أو الذكية.
ويضيف البعض إلى تلك القوى واحدة من أسوأها ألا وهي القوة الحادة Sharp Power ووصفوا كل من الصين وروسيا باستعمالهما، تلك القوة للنيل من الديمقراطيات الغربية، وهذا يبرز مساحة العداء والتنافس الدولي بين (قوة) الديمقراطيات و(قوة) تلك الدول في السابق في بناء (القوة).
هذه القوى كانت وما زالت محل دراسات خبراء كثر منهم جوزيف ناي، كادوارد هاليت كار، سوزان نوسيل، ريتشارد ارميتاج، دانيال كويل وغيرهم من منظري القوة والباحثين والمهتمين بالقوة ومحدداتها.
ويمكن القول أن القوتين العسكرية والاقتصادية لهما القدح المعلى في تحديد قوة الدول، والقوى الأخرى الناعمة وأخواتها الذكية والإلكترونية فهي قد توظف من قبل الدول التي تمتلك القوة الصلبة، في تنفيذ سياساتهم وفرضها بالترغيب والترهيب على الدول الأخرى.
وجدير بالذكر أن القوة الصلبة في عالم اليوم الذي يبرز فيه التنافس الدولي بشكل بالغ الحدة خاصة بين الدول الكبرى، قد لا يعد كافياً لتصبح الدولة ذات قوة مطلقة والمثل لذلك أن الاتحاد السوفييتي السابق غربت شمسه رغم جيشه القوي ليعلن عام 1991 تاريخ تفكك تلك الإمبراطورية التي كانت ذات شأن عظيم في قوتها وفاعليتها.
لكن من يدقق في محددات القوة يتضح له أن القوة البرية هي الأساس للقوة العسكرية، هذا لأن المعارك الكبرى لا يمكن أن تحسم إلا بقدرة وفاعلية الجيوش البرية في ميدان المعركة، وما معادلة الطيران والبحرية مثلا إلا استعمال قوتهما ليصبح ميدان المعركة جاهزاً لتحرك الجيوش البرية لاستكمال هزيمة الخصم.
وفي مفهوم القوة العسكرية التي تمتلكها دولة عظمى مدعومة في قوة اقتصادية تستطيع أن تشكل تأثيراً وضغطاً قوياً على دولة أخرى دون أن تحرك جيشها لمنازلة جيش دولة أخرى، وذلك بتطبيقها عقوبات اقتصادية تنهك تلك الدولة وتقلل من حركتها الدولية وتضعف اقتصادها.
ولا شك العلاقة بين طهران وأمريكا مثلاً حياً لذلك، وفي المقابل فإن الدولة التي تصنف بأنها قوة اقتصادية دون امتلاكها للقوة العسكرية تصبح غير قادرة على مجابهة تلك الدولة التي تمتلك العنصرين الأساسيين القوة العسكرية والاقتصادية.
إذاً أهمية القوة تبرز في قدرة الدولة على امتلاك مصادر القوة العسكرية، لكن القوة العسكرية لوحدها ليست باستطاعتها أن تجلب الأمن والاستقرار لأي دولة، لكنها في حسابات القوة تعد العنصر الأساسي من عناصر قوة الدولة الأخرى التي تكمل مفهوم القوة.
ورغم ذلك فإن القوة العسكرية في مراحل متعددة من مراحل التاريخ بتكاملها مع العناصر الأخرى استطاعت أن تحقق السلم والاستقرار بعد أن خلفت وراءها عشرات الملايين من القتلى والجرحى والمعاقين ومآسي لا يمكن أن تنسخ من صفحات التاريخ.
والدليل أمامنا فالقرن المنصرم مضى بخيره وشره بعد أن شهد حربين كونيتين أهلكت ملايين البشر، كان اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914 - 1918) بسبب إقدام متطرف صربي على إغتيال ولي عهد النمسا لتشتعل أوربا عن بكرة أبيها ويبلغ التدمير مرحلة غير مسبوقة في التاريخ الإنساني وليهلك ملايين من البشر.
وما أن حطت الحرب أوزارها حتى واجه العالم كساداً اقتصادياً عالمياً عظيماً ( 1929 - 1933) الأمر الذي ترك أثره على السياسة الدولية وانسحبت ألمانيا بتاريخ 14 أكتوبر 1933 من عصبة الأمم وشهد العالم بروز نجم النازي هتلر، الذي تسلح بمكنة إعلامية ضخمة في ذلك التاريخ.
الرجل الناري بلغ في غرور السلطة والعظمة في ظل جيش ذا سطوة قوية في زمانه، شجعه على غزو جيرانه متسلحاً بالقوة، لتندلع نيران الحرب المدمرة الثانية (1939 - 1945) بنازيتها وبلشفيتها لتهلك عشرات الملايين من البشر، وعم التدمير شرقاً وغرباً وعرف العالم الانتحاريين من اليابانيين والصينيين في ذلك الزمان لدحر الخصوم، وبذا فإن بدعة الإرهاب الحديث إنما عرفها التاريخ من قبل.
تلك الحربين البغيضتين أولاها لم تعرف السلاح النووي والثانية عرفته في أواخر عمرها سلاحاً أمريكياً فتاكاً لتعلن انتهاء تلك الحرب الضروس.
لكن العالم لم يتوقف عن الإسراع في امتلاك ذلك السلاح السحري فانضم الاتحاد السوفييتي (السابق) إلى النادي النووي ليصبح العضو الثاني وتتابع الانضمام لتدخله فرنسا، بريطانيا، الصين، إسرائيل، الهند، باكستان، كوريا الشمالية، وإيران على الطريق إذا لم تكبح جماحها (بالقوة).
إذاً سحر القوة وطغيانها اذا توفرت لقائد يفتقر لتطبيق مبدأ الحكمة العسكرية والرؤى الاقتصادية وغيرها من محددات القوة، فإنه قد يدخل في خضم مغامرة عسكرية غير محسوبة قد تعود على بلاده بالهزيمة المنكرة، ويعيش شعبه سنوات بل عقود عجاف.
وهنا فإن القوة التي استغلها القائد الفقير في علم القيادة ستلقى حتفها على يد قوة أكبر منها لتصبح أسطورة القوة سبباً في شن الحرب، وكذلك سبباً في خسارتها، وهذه من عبر ودروس التاريخ.
والله ولي التوفيق،،،
** **
- رئيس مركز الخليج العربي لدراسات واستشارات الطاقة