إبراهيم بن جلال فضلون
الرئيس الفرنسي «مصدوم جدًّا» من صور عناصر من الشرطة وهم يضربون منتِجًا موسيقيًّا، هكذا العنوان، لكن صدمتي كانت أكبر في معركة «الأمعاء الخاوية» بفرنسا، وكيف يمكن لأكبر حدث تاريخي ملهم، كالثورة الفرنسية الخلاقة، التي يعتبرها أغلب المؤرخين من أهم الأحداث المفصلية التاريخية التي شهدتها البشرية، وتأثرت بها شعوب العالم التي تفصلها آلاف الأميال عن فرنسا، أن يفشل؛ لتتحول لدولة مدانة في كثير من مراحلها التاريخية المتقلبة، وهي تتشدق بنظامها العلماني في هجوم صارخ على جوهر الدولة الفرنسية وقيمها المتمثلة في العلمانية وحرية العقيدة والتعبير والعدالة الاجتماعية، فيما تدير ظهرها لكل ذلك كما تفعل اليوم! السؤال بحد ذاته محير وعاصف للعقل المتوازن والمنطق الموضوعي. وقد قلت سابقًا بمقالة، عنونتها «إلا سيد الخلق.. بأبي وأمي أنت»، إنه يجب على الدولة الفرنسية والدول الأوروبية مراجعة كيانات متعددة تتخفى وراء أنشطة خيرية، وأن تراقب الجمعيات والمنظمات لديها، خاصة تلك التي تتلقى دعمًا ماليًّا ولوجستيًّا من الخارج عبر قطر وإيران وتركيا لتنفيذ أجندات إرهابية، واصمين الإسلام بالعار، بل ليلحقوا بفشلهم فشلاً تلو الآخر، وإلا ما ظهرت على مدار عشرات السنين من الحروب الدينية الدامية بين مدارس وأحزاب التطرف الراديكالية والثورية والوضعية والفوضوية والسريالية والتكعيبية وغيرهم، لتنتهي بالمثلية والأعراف التقليدية لنظام المجتمع الفرنسي الذي أفرز بتلك الأشكال الماسونية كل أنواع التطرف والعنصرية التي عانى منها الإيطاليون والإسبان والبرتغاليون في شتى مناحي حياتهم ومجالاتها؛ لتعلق المشانق الفرنسية حتى تم ذات مرة إعدام ستة آلاف سياسي في ستة أسابيع. لقد سرعت خطواتها إدارة الرئيس الفرنسي ماكرون في مواجهة مفتوحة مع أصحاب السترات الصفراء وأقوى مظاهراتها، ثم لتشتعل مع ما يسمى تيار «الإسلام السياسي» داخليًّا وخارجيًّا في أعقاب مقتل مدرس التاريخ «باتي» ذبحًا على يد متطرف في أكتوبر الماضي، أنهتها الحكومة بمشروع «الأمن الشامل»، ويمنع تصوير عناصر الشرطة بالسجن؛ ليرسخ ميل ماكرون «للاستبداد»، ثم يخرج ماكرون يندد باعتداء غير مقبول داعيًا إلى نبذ العنصرية وتغذية الكراهية، وهو من يعلم بمكانة ودور المنظمات الإرهابية، ولاسيما الفرع الفرنسي لتنظيم الإخوان والمنظمات القريبة من تركيا، بعد قرارات بحل «بركة سيتي»، و»التجمع ضد الإسلاوفوبيا بفرنسا»، و»تجمع الشيخ أحمد ياسين»، وكلها منظمات في جسد واحد، وجد أوروبا مرتعًا خصبًا له؛ فهؤلاء بارعون في التأقلم مع الأزمات فيما يسمونه بسياسة الاستضعاف؛ إذ يمارسون دور الضحية، ويتقنون المظلومية، وهي سياسة آتت أكلها معهم خلال عقود، وحشدت لهم أنصارًا داخل التيارات اليسارية والليبرالية الأوروبية، لكن قطاعًا واسعًا من هذه النخب بدأ يستفيق لحقيقة الخطاب الإسلاموي المزدوج، خاصة إزاء قضايا العنف والعنصرية والحريات الفردية والمرأة وغيرها.
إنها قمة الضعف وطريق الفصل العنصري، الذي يفتح شهية الانتقام.. واضعًا أكثر من عشرة ملايين مسلم تحت المراقبة، وكأنهم في سجن كبير.. يخالف مبادئ الجمعية الوطنية الفرنسية، ويطعن فيلسوفها جان جاك روسو في الظهر، ويشعل فتيل العنصرية في عموم القارة العجوز، التي تآكلت مجتمعاتها، حتى تغنى العلمانيون بالديمقراطية مروجين لصورة فسيفساء حالمة لفرنسا؛ ليظهر اليمين المتطرف الذي أخذ يقوض كل ذلك.. لِمَ لا وقد نعتهم الألمان بـ»قلة الهمة وكثرة الشكوى»، وإلا ما كانوا أكثر ميلاً للتظاهر بين الشعوب الأوروبية كلها، فيخرجون للشارع، ويعطلون العمل لكل الذرائع..
إن الساسة زائلون، والشعوب باقية، وإن أي عدوان ذي طابع ديني تكفيري أو عرقي هو عمل إرهابي يقتضي الإدانة، وما يفعله الساسة الآن إرهاب وتنمر على حياة مجتمعاتهم ورموزها. فهل يعون الدروس من الماضي، أم أنهم في غفلة من أمرهم؟!
وكأن دعوة «روسو» في جزء محذوف من «رسالة إلى كريستوف دوبومون» أُعيد نشرها في كتاب «ق 18» الذي أسهم في كتابته المؤرخ الفرنسي «غانيبان»، وآتت أكلها، قائلاً: «تعالوا إذن أيها اليهود والمسيحيون والمسلمون، ولنفحص طبيعة الإنسان حسب نظامكم، وأعدكم بأنني سأتراجع بدوري إلى مجالي إذا ثبت خطئي، لكن أرجوكم دعونا نحاول أن نتجادل كأشخاص عقلاء». فالوضع الأوروبي يتأزم ليشتد لهيب النار في هشيم السياسة الفرنسية العقيمة، بل الأوروبية التي نتمنى أن تجد المسلك الصحيح، ووفق معايير العدالة التي دعا إليها مفكر الثورة الفرنسية روسو.. ومعالجة أزمتها التي يخلقها ساسة جهلاء في إطار المناورات السياسية الجوفاء.