حمّاد بن حامد السالمي
«لولا الكلام الذي هو لغة التواصل بين البشر؛ ما كان للحياة على وجه الأرض قيمة تذكر، ولا تقدم البشر وتطوروا وأشادوا حضارات إنسانية على الأرض. لكن أي كلام نقصد..؟
«كان العرب من بين الأمم التي عرّفت الكلام فقالت: (هو اللفظ المفيد فائدة يحسُن السكوت عليه). المفيد لا الضار. ومنذ بدء الرسالة المحمدية؛ ربط المسلمون الأوائل بين الكلام وعلوم التوحيد والفقه، وأصول الدين، وعلم الإيمان والأسماء والصفات، لأهميته وخطورته، ولما كثر المتكلمون في هذا الشأن؛ ظهر بينهم علم الرجال الذي يهتم بالجرح والتعديل، وفيه تتجلى ظاهرة النقد، ومن ثَم قبول الصحيح ورفض غير الصحيح، على وحي من تعاليم الدين الحنيف، وهدي المصطفى- صلى الله عليه وسلم- الذي قال: (المسلمُ من سلِم المسلمون من لسانِه ويدِه)، فقُدّم اللسان على اليد؛ لشرّه، وعظيم سوئه.
«هذا مدخل مبسط للغاية؛ لما نحن بصدده من الكلام على ظاهرة الكلام في كل شأن لكل من هب ودب. الكل في زماننا يفتي وينظِّر ويمدح ويقدح بدون معايير علمية، ولا مقاييس أدبية أو أخلاقية، حتى أصبح المتلقي في حيص بيص مما يسمع ويرى ويقرأ كل يوم، في كل ساعة، بل في كل دقيقة وثانية، في خلط عجيب بين الديني والسياسي والثقافي والاجتماعي والصحي، إلى غير ذلك، مما يدخل في اهتمامات الإنسان وحياته العامة والخاصة.
«عرف الأولون الكثير من المتكلمين الكذابين؛ الذين يزورون ويزوقون الكلام، ليتقربوا به إلى المتنفذين متكسبين منهم لا أكثر، وإلا فإنهم ربما حطوا منهم إذا خلوا إلى شياطينهم..! فهذا هو حال المدّاحين بلا سبب في كل زمان ومكان، أما في زماننا هذا؛ فقد طفح الكيل بأشكال وألوان من المتكلمين المأجورين الكذبة، الذين يجاهرون بكذبهم دون خجل ولا وجل، ويكذبون ويعرفون أنهم يكذبون، ويعرفون أن الكل يعرف أنهم يكذبون، لكنهم يتكسبون في أسواق للكلام مكشوفة مفضوحة بلا حياء، انطلاقًا من دكاكين كلامية، تحت يافطات ضالة مضللة، توحي بأنها مراكز بحثية، ومكاتب استشارية، وبيوت خبرة، وما هي إلا واجهات للتدليس والتلبيس، وديدنهم الركض خلف أحزاب متناحرة، وتنظيمات سياسية، تملك المال الذي تشتري به الذمم الرخيصة، في أسواق مشرعة، لمنصات وبوابات للتواصل الرقمي، منها تلفزات وصحف وإذاعات، وأحدثها حسابات إلكترونية، تدار وتوجه مع بوصلة من يدفع أكثر.
«قبل خمس مئة عام؛ ظهر شكل جديد منظم من الدعاية (البروباجاندا)، التي تطورت مع الأيام حتى أصبح لها وسائلها الإعلامية التي تستخدمها، من تقارير إخبارية، وحكومية، إلى الكتب، والمنشورات، والأفلام، إلى الإذاعة والتلفزة، بهدف التأثير في الرأي العام، وتلقين المجموعات المستهدفة بالدعاية ما يريد المعلن. وتجلت فيها فيما بعد؛ طريقة الاعتماد على (المغالطات المنطقية)، حيث يقوم القائم بالدعاية؛ باستخدام عبارات مقنعة، وإن كانت غير سليمة أو واقعية.
«لم يعد هناك خطوط فاصلة بين الإعلامي المعرفي، والمعلن المتكسّب، فنحن نشهد كيف يتحايل الكل على ارتفاع -أو بالأصح استلاب- مستوى الوعي الاجتماعي، في استغلال واضح لتطور مهارات الاتصال الحديثة، وتقنيات الإبهار المعلوماتي، ما أوجد مستويات أعلى من الإسفاف في نقل وتسويق الصور (المؤدلجة) عن الواقع، أو الإمعان في ترسيخ صور أخرى في ذهن المتلقي، ومن ثم خدمة سياسات دولية ومخابراتية وغيرها، للسيطرة على الشعوب، وتهييج المجتمعات، وتركيع دول في الشرق والغرب.
«حين نقول (دكاكين المتكلمين الجدد)؛ فنحن نعني مرحلة نعيشها، ونشهد فيها قمة الإسفاف من تجار كلام لا ذمم لهم ولا مبادئ ولا أخلاق، ذلك أنهم يكذبون ليل نهار، ويزورون ويغالطون، ويزوقون ويسوقون، حتى ليظن العامة؛ أنهم أهل حق وغيرهم أهل باطل، ونخص بالذكر؛ العرب المتاجرين بالكلام ليل نهار، مثل الفلسطيني عبدالباري عطوان؛ والتونسي محمد الهاشمي الحامدي؛ ومحمد المختار الشنقيطي من الدوحة- أستاذ الأخلاق في جامعة قطر قال..!! وغيرهم خلق كثير من أصحاب الدكاكين الكلامية المأجورة، فمنهم من يناصر دولًا تعادي العرب، وتهدد كياناتهم، وتستهدف أمنهم، مثل إيران الصفوية، وتركيا الإخوانية، ومن يسير في ركابهما من جماعات إرهابية. ومنهم من ينطلق من منابر إعلامية عربية وأجنبية، أنشأتها وتمولها دولة قطر، للتشغيب ضد المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات والبحرين تحديدًا، لأن هذه الدول قاطعتها، بعد أن ثبت تورطها في التخطيط ضدها، ولدعمها المنظمات الإرهابية التي تستهدفها، ولدورها في دعم الخريف العربي، الذي خرّب تونس وليبيا وسورية واليمن وغيرها.
«كل يوم وليلة وساعة ودقيقة؛ هناك من ينبح ضدنا بكل قبيح فضيح في قنوات التواصل الاجتماعي، وفي قناة الجزيرة وأخواتها، وعبر عشرات القنوات التي توجهها إيران وتركيا والإخوان، بكل اللغات؛ ضد عروبتنا وأرضنا وأمننا واستقرارنا.. ليس في المملكة فقط؛ ولكن (البروباجاندا) المعاصرة الكذابة؛ تستهدف كل عربي، حتى أصبحنا نشك في أن كل من اعتلى منابر إيران وتركيا وقطر والإخوان ليس بعربي؛ وإلا كيف يقبل أن يتحول إلى (مرمطون)، وإلى بضاعة للكلام رخيصة بخيسة، تباع وتشترى في أكثر من سوق للمتكلمين الكَذبة..؟!
«قال شاعر العرب في زمن مضى؛ وما أصدق ما قال:
لا يكذب المرء إلا من مهانته
أو فعله السوء؛ أو من قلة الأدبِ
لبعضُ جيفة كلب خيرُ رائحة
من كذبة المرء في جدّ وفي لعب