يكثر المدح اليوم وربما يُلقى أحايين بلا دواعٍ، أو إليه تدفع، لذا أُسطر هنا بعض اللوازم التي تجعل من جلائها في عصرنا تحديدا كضرورة ..
أولا ليس له أهلٌ سوى الله سبحانه القائل: (لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ)(70 القصص).
وفي الصحيحين من قوله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (لَيْسَ أَحَدٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ مَدَحَ نَفْسَهُ..).
ومن ثم رسوله الذي ما إن سمع عمر -رضي الله عنه- قول الأعشى:
تُشَبُّ لمَقْرُورَيْنِ يَصْطَلِيَانِهَا
وَبَاتَ عَلى النَّارِ النَّدَى وَالمُحَلَّقُ
قال (ذاك رسول الله)، أي لا يستحق من يقال به مثل هذا الثناء المبجّل لصاحبه سوى نبي الأمة-عليه الصلاة والسلام..-
ومن سواهما إن مدحته مهما بلغ فقد دخلت تحت عباءته (أمسيت منضويا تحته)، ولن تعدو سقف مدحك له، حتى وإن بلغت بيوم ما لم يبلغ عدا أحوال معينة، كأن تمدح الحق الذي معه، أو المصداقية التي عُرف بها، وقد يساغ لك بمجال محدد، قام بخدمة أمّته من خلاله.. الخ.
أقصد تحدد هدف ما تمدحه فيه، فلا تطلق لمقالك المدح فيه فتحسب من أهله.. بقول (المباركفوري) -رحمه الله- في «تحفة الأحوذي» (9/ 357):
«أحب المدح لِيُثِيبَ عَلَى ذَلِكَ فَيَنْتَفِعَ الْمُكَلَّفُ، لا لِيَنْتَفِعَ هُوَ بِالْمَدْحِ ؛ وَنَحْنُ نُحِبُّ الْمَدْحَ لِنَنْتَفِعَ وَيَرْتَفِعَ قَدْرُنَا فِي قَوْمِنَا؛ فَظَهَرَ مِنْ غَلَطِ الْعَامَّةِ قَوْلُهُمْ: إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْمَدْحَ، فَكَيْفَ لَا نُحِبُّهُ نَحْنُ ؟
ألا فلتعلم أن المادح -ذاته- بالأصل مذموم الصنيع، ما روى مسلم عن المقداد -رضى الله عنه- أن رجلا جعل يمدح عثمان -رضى الله عنه- فجثا المقداد على ركبتيه وجعل يحثو في وجهه الحصباء، فقال له عثمان: ما شأنك ؟ فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «إذا رأيتم المداحين فاحثوا في وجوههم التراب» والحثو والحثى هو الحفن باليدين.
سوى من ابتغى بذاك وجه ربه، لا راجيا من الممدوح غرضا، أو مؤملاً شيئا فمدحه هنا وجه من الشكر(على ما يستحق) لأن خلاف هذا يعدّ جحودا وربما يزاد في نعته انه غيرة قد ترتقي إلى الحسد على ما بلغه هو وانت لم ...!
من هنا يلزم المادح أن يقيد مدحه للشخص بأحوال، فهو يمدح امراً محمودا بالممدوح، ليُقتدى به، أو ليبرز للأمة ما بلغه الممدوح كـ إشارة -كناية- ان يلتفت اليه وازجاءه بما هو أهل او هو مبيّن لمناقب أمته ومنها قولها للمحسن أحسنت، لحديث جمع المراد بـ(أنتم شهود الله في أرضه)..
على نحو ما قال به العلماء: «إن مدح الإنسان والثناء عليه بجميل صفاته، قد يكون في وجه الممدوح وقد يكون بغير حضوره، فأما الذي في غير حضوره فلا منع منه، إلا أن يجازف المادح ويدخل في الكذب فيحرم عليه بسبب الكذب، لا لكونه مدحا، ويستحب هذا المدح الذى لا كذب فيه إذا ترتب عليه مصلحة ولم يجر إلى مفسدة، بأن يبلغ الممدوح فيفتن به أو غير ذلك». وكذا المدح على صنيع (معين ) محدد- كما تقدم-، ومقصده حديث (من صنع إليكم معروفا فكافئوه)، فالمدح مكافأة معنوية جليلة الوقع عند الممدوح، ثم ذكر ذات الحديث أقل درجات المكافأة بالدعاء له - إن لم نستطع ما فوق الدعاء..
فكيف بمن صنع بالأمة.. معروفا عرفه له القاصي والداني، نحو ما أوجز الشاعر ممن يستحق أن يفقد فتندب الأمة رحيله لفراغ الزاوية التي أخلفها:
إذا ما مات ذو علم وتقوى
فقد» ثُلِمت من الإسلام ثُلمة»
وموتُ الحاكم العدلِ المولّى
بحكم الشرع منقصةٌ ونقمة
وموت العابدِ القوّام ليلاً
يُناجي ربّه في كل ظلمة
وموتُ فتىً كثير الجود محلٌ
فإن بقاءه خصبٌ ونعمة
وموتُ الفارس الضرغام هدمٌ
فكم شهِدتْ له بالنصر عزمة
فحسبُك(خمسةٌ) يُبكى عليهم
وباقي الناس ..همُ تأثيرا حسب من حولهم
ما لا يبعد مداه عمن ثلمه فإن لأحدهم أن يقف على مآثره التي علمها وربما لم تصل لبعض.. فضلا عن غالب الأمة، وهنا لن أظلمه بالقول في فقده: (تخفيف ورحمة)!!
وبالمناسب.. عن مراد الثُلمة هذه ما ذُكر للحسن البصري -رحمه الله-: «كانوا يقولون: موت العالم ثُلمة في الإسلام، لا يسدها شيء ما اختلف الليل والنهار».
فالثُّلْمَةُ فِي الْحَائِطِ وَغَيْرِهِ أي : الْخَلَلُ، جاء فيه(نهي عن الشرب من «ثلمة» القدح أي موضع الكسر منه لأنه لا يتماسك عليها فم الشارب، وربما انصب الماء على ثوبه وبدنه)
وقف بعضهم على (دار)مسلّحة لكن بطريقة شعبيةً، قائلا:
(لقد دخلها كل ملوكنا..) يقصد به بيت ابن عثيمين.. -رحمه الله-، وهنا لا أجدني إلا لقادتنا شاكرا، لأن هذا القمين بهم، وقد تحقق/ تكريم العلماء عبر (وصلهم) في منازلهم- و»الأعياد» تحديدا على هذا الصنيع.