من حظر وحجر صحي، وتباعد اجتماعي، نحن وهم والعالم أجمع..
بعثت لي برسالة نصية، تسألني عن الحال والأحوال.
لفت نظري في رسالتها هذه المرة الاختلاف الواضح؛ أصبحتْ أكثر هدوءًا.
أذكر رسالتها الأولى عند استيطان الكورونا لبلدهم الجميل:
(نجلاء، هناك أمر خطير: فقدتُ الكثير من الأحبة؛ أشعر باختناق؛ سوف تنتهي إيطاليا. أبعث لك وأنا بحال جيدة الآن، لكن أشعر ببعض التوعك.
نسمات البحر الهادئة بدأت تزعجني..
جمال مدينتي يخيفني..
قواربنا سكنتها الأشباح..
تجارتنا تتهالك أمامي..
صديقتي ودعت والدها ليلة البارحة..
أتوجس من الجميع، أهرب منهم..
أشعر بأن الفيروس كائن حي، يختال ويختار ويحتال..
الأمور تخرج عن السيطرة هنا..
صعب مجاراة ما يحدث. يحاول الجميع لكن لا فائدة..
أطمئن لحديثك كوني بخير. هل نراكم مرة أخرى؟).
بدا واضحًا من خلال كلماتها الغريبة حجم قلقها وما تعانيه.
لا يمكن أن أتقبل رسالتها بدون أن يصيبني حزن عليها.
لم تكن رسالة روتينية تعوّدنا أن نرسلها لبعضنا من أجل كسر الرتابة والملل.
هي صرخة، جعلتني أنصت بضعف المؤمن الراجي رحمة الله.
المرسلات النصية في مثل هذه الأوضاع الراهنة جعلتنا نشعر بالألفة والاقتراب، إضافة إلى مفعولها التخديري (التطميني)، وذلك ما رغبتْ به صديقتي سولينا.
كتبتُ ردًّا لها:
سعيدة وفخورة بك لسرعة تجاوزك كل ألم وفقد.
صدقت مقولة إن الإنسان يأخذ من اسمه (سولينا) الحكيمة الرزينة العاقلة.. هذا معنى اسمك.
هل أعددت حلوى التراميسوا؟ قوية أنت كما عهدتك.
وجدت فرقًا بين الآن وأشهر مضت.
تذكري، لا شيء يعود بسرعة.
الدمار يحدث بومضة، ويحتاج لوقت طويل ليزول.
ثم شرعت بكتابة رسالة، لا أعلم لمن، تحمل بين طياتها تجربة شعور مرّ به الجميع على مختلف الأعراق والأديان والدول.
عشنا الخوف من مجهول، لا نعلم عنه شيئًا، بدأ صغيرًا فكبر.
عزلة إجبارية، سرعان ما تعودنا عليها.
أصبح الوضع مقبولاً، لم يعد للضجر خانة، ولا للاشتياق مكان.
هي المرة الأولى التي نعزل أنفسنا فيها بدون الشعور بتأنيب الضمير.
هذه الحال التي أبعدتنا عن واجباتنا الاجتماعية المقيدة لنا أحيانًا لا تُعد تقصيرًا أو إهمالاً، بل واجبًا وحرصًا على الجميع.
هل العزلة مسكنها ذواتنا؟
أعتقد هي كذلك، لكن تهنا عنها..
أخذت بيدنا إلى نعيم التأملات..
أوصلتنا إلى عمق يجعلنا نرى الحياة كما هي.. أهدتنا نعيم الاستقرار والنقاء بالفكر..
أخذتنا إلينا لتُخرج أجمل ما فينا..
تفرَّغنا فيها لفعل ما نحب..
جعلتنا نفر من أنفسنا ومن واقع الكارثة إلى مزاولة أعمال منسية..
كلٌّ حسب رغبته، من أبسط الأمور إلى أكثرها تعقيدًا وأروعها.
نحتاج إلى وقتنا المسروق من الزمن الراكض سريعًا.
تجربة غريبة، إضافة إلى مشاعرنا الكثيرة أثقلت علينا..
زرعت فينا شعورًا مثيرًا للاهتمام بالصحة والحياة،
وبالوقت ذاته لم يكن شعورًا اعتياديًّا بين عزلة مفيدة وجائحة خطيرة.
تركت شيئًا في مكامن النفس، يصعب الوصول لوصفه.