د. حسن بن فهد الهويمل
الشعراء، والشواعر في القديم، والحديث، والحداثة رصدوا أصداء الرأي العام، حول مجريات الأحداث، وعبَّروا عن مشاعر الاستياء من أحوال المجتمع، وتردياته في كل الوجوه.
هناك مثاليات متعالية، قطعت صلتها بالواقع، وعطلت قدراتها بِشمَمِها.
وهناك واقعيات متدنية، مُتَشَبِّثة بطرفي الإفراط، والتفريط، تعطلت معها الإمكانيات المتاحة.
وهناك وسطية في الأداء تُحقِّق ما لا تحققه الأنفة الزائفة، أو الضعة المذلة، وسطية تعايش الواقع، ولا تسلم له، وتحاول الخلوص من إخفاقاته، لا تُكَسِّر أشياءه، تحترم الأعراف الدولية، وتلتزم بالعهود، والمواثيق، ولها مضمراتها.
أحوال الأمة خليط من هذا، وذاك. عادات، وعبادات بعضها يمس الأخلاق، والبعض الآخر يمس الدين. وأخرى تمس السياسة العامة، والتجاذبات العالمية.
والإنسان فيها ممتحن، ينجو تارة، ويخفق أخرى، ويقع في حبائل الذل، والهوان تارات متعددة، تحكمه إرادة ربانية كونية، وتوجهه إرادة شرعية، فهو بين التخيير، والتسيير.
قد يستفيد من تلك التقلبات فيأخذ حذره، وقد لا يستفيد، فتتكرر الإخفاقات، ويعيد التاريخ نفسه، وذلك بعض ما نعايشه.
والشعراء، والكتاب، والخطباء يَحْدون أمَّتَهُم، ويرودون لها، يحذرون، ويجسِّدون مآسيها، ويحذرون من مغبة تقبل الضعة، والهوان، وَإلْفِ المسكنة المذلة.
وآخرون يتمردون، ولمّا يُعدوا للأمر عدته، وكأن الشاعر عناهم بقوله:-
(ولَسْتُ بِمِهْيَافٍ يُعَشِّي سَوَامَهُ
مُجَدَّعَةً سُقْبَانُها، وهي بُهَّلُ
ولستُ بِعَلٍّ: شَرُّه دون خَيره
أَلَفَّ إذا ما رُعْتَهُ اهتاجَ أعزَلُ)
لقد حُرمت أمتنا من كل إمكانياتها، وحيل بينها وبين التحرف، أو التحيز لما ينجيها. قبضة العدو قَبضةٌ حديدية، تدمي المعاصم، وتهين الشرفاء، وتذهل المرضعة عما أرضعت:-
(أه مِنْ قَيْدِكَ أدْمَى مِعْصَمِي
لِمَ أُبِقيهِ ومَا أْبقَى عَلَيَّا)
في هذه الأحوال المتردية أبدع شعراء المعاني قصائد عصماء لامست أسماع المتعذبين، ولم تلامس نخواتهم، ومن ثم لم توقظ عزائمهم، ولم تحرك مشاعرهم، فهم بين يائس قنوط، ومتبلد أَلِفَ الذل، والهوان، فكان جرحاً ميتاً لا يتألم. ونفور لا يملك القدرة على المواجهة.
ضربات المستبد مفصلية موهنة، وإعلامه خَدر ينساب في مجرى الدم. وأذنابه، وعملاؤه يتلمسون ثغرات الطريدة، فيوهنونها: نفسياً، وجسدياً.
والهزيمة النفسية أخطر على الأمة من سائر الهزائم الأخرى.
لقد أتيحت لي دراسة بعض هذه القصائد، وتدريسها، في مختلف المراحل، وكان الطلاب آنذاك - أي قبل نصف قرن - يتوقدون حماساً، ويترجمون ما حفظوا من خلال انفعالاتهم، ورفضهم. قصائد الثورة على الظلم، والهوان، وجدت فيها حسرة، وتحسراً على واقع الأمة، غير أن التلاعب في القضايا من أهلها أطفأ الوهج، وبلَّدَ الأحاسيس.
تدخل الغرب، والشرق في كل أشياء أمتنا، أيقظ الهمم، وأشعل الحماس، ولكن الحماس مع الإخفاقات تآكل، وانْطفَأ.
من المؤلم غياب هذه القصائد، كما هي عند (أبي ريشة) و(محمود غنيم) و(الشابي) و(الصبان) و(القرشي) و( دنقل) و(الدامغ) وغير أولئك، وغياب أناشيد استنهاض، وتحشيد.
كنشيد:-
(أَخِيْ جَاوَزَ الظَّالِمُونَ المَدَى).
نعم هناك مستبدون ظلمة، تجاوزوا الحدود المحتملة، وأذلوا أمة كانت تحكم العالم، كما عبَّر الشاعر (محمود غنيم).
نحن لا نريد الحروب المدمرة، ولا الفوضى الهدامة، نريد إيقاظ الضمائر، وتحشيد المشاعر، وترقب الخلوص من الذل، والضَّعةِ، والهوان، نريد رفع الظلم، ورحيل المستبد من أرض العروبة، والإسلام. ليست لنا قوات في أوربا، ولا في أمريكا، ولا في بقاع العالم.
وأرض أمتنا مليئة بالقوات، والقواعد، والإعلام الموكل بتزييف الوعي، وتثبيط الهمم، ومواقع التواصل المدمرة للأخلاق المفترية للكذب، والعملاء المفرقين للأمة، المصدعين لحمتها بالدسائس، ودعك من اللعب القذرة، كلما خبت نارها زادها العدو المتربص سعيرًا.
طوائف، وأحزاب، ومذاهب، وأعراق غبية حاقدة مُغِلَّةٌ، تُدعم من المتسلط، حتى تدمر ما حولها، فإذا اشرأبَّت أعناقها، ضُرِبت بمقامع من حديد، وكلما شارفت اللعبة على النهاية، رُدَّ العميل إلى مربعه الأول، ثم سلِّح الضعيف ليعيد الكرة، ويدمر من دمره، وهكذا هي حياة أمتنا.
ذلك بعض ما يُسمى خداعاً بـ(الربيع العربي) الذي باركه، ودعمه (أوباما) ليمهد لمشرق أوسطي جديد، وينفذ (أجِنْدَة) أخطر وزير خارجية أمريكي (هينري كيسنجر).
وهكذا حياة أمتنا جزر، ومد. والمتسلط يبيع السلاح على الطرفين بخبز الشعوب، ودوائهم، ويستنزف خيراتهم، وهم يستبقون في الدفع.
(إنِّي تذكَّرتُ والذكرى مُؤرِّقَةٌ
مَجْداً تَليداً بِأيْدِينَا أضَعْنَاهُ)
على إعلام أمتنا أن يعيد لمشاهدنا ولو الكلام، عسى أن نَغْسِل به حوباء الإعلام العميل، ونشعل بسقطات زنده مشاعر أمتنا.!