سام الغُباري
- تعرض جدي الذي كان يقاتل في صفوف الجمهورية إلى الخديعة، كان قد ترك حقله وانضم الى جبهة مقاتلة على حدود مديرية «آنس» المزدحمة بالعلويين، كان جندياً عادياً.. اندحرت آماله وهو يشاهد «مجاهد القهالي» يحاصر منزل الفريق «حسن العمري» ويلزمه بالرحيل بعد بطولة «حصار السبعين»، رأى جدي أيضاً جثة القائد الجمهوري عبدالرقيب عبدالوهاب تُسحل في شوارع «صنعاء» الخالية من السبتمبريين الأوائل، فقد عاد إليها الإماميون باسم الجمهورية التي فشلت في تقديم حل لعُقدة السلطة المزمنة، كل الذين تولوا حُكم اليمن معتمدين على «عزرائيل» لانهاء حكمهم بصورة طبيعية، أُرغِموا على الموت أو الفرار.. منذ أول عرش صنعه الإمام يحيى حتى آخر كرسي جلس عليه «علي عبدالله صالح»، في الشمال أو الجنوب اليمني، كانت العُقدة واحدة.. اليمني لا يريد حاكماً ولم يستوعب بعد معنى أن تكون له دولة حقيقية، حتى في العهود القديمة، كان مهووساً بكرسي الحكم.
- افترض أن «محمد البدر» حاول إنقاذ والده، مستغلاً غيابه المرضي الطويل في «روما»، عمل على تغيير محوري في سياسة مملكته، استدعى القبائل، وانشأ عدداً من القوات الخاصة، وألبسهم رداءً عسكرياً، كان متحمساً لتجربة التعاونيات أو المجالس البلدية، أراد تطوير فكرة الدولة من خلال عدد من مستشاريه النابهين، إلا أن والده الذي عاد فجأة إلى الحديدة، صفعه أمام الملأ، ثم أجبره على إلغاء كل شيء، وتشتيت القوات الجديدة، وإلزام القبائل بتسليم أسلحة الإمام !.. ثم امتشق سيفه وصاح في الناس «هذا الفرس وهذا الميدان، ومن كذّب جرّب»، فما جرأ أحدٌ على نزاله!.
- قُتل أحمد، ولم يعد هناك مُتّسع لنجله، قضت الجمهورية على آخر آمال الحكم الإمامي في اليمن بمساعدة مصرية وسوفييتة وصينية، غير أن السلوك النفسي تجاه الحاكم كان واحداً، الجميع يريد أن يكون «الرجل الأول».. وقد كانت إحدى اسباب بقاء «علي عبدالله صالح» الطويلة في الحكم أنه منح الأقوياء الذين كانوا يمثلون تهديداً دائماً لرئاسته من مشايخ القبائل أو الضباط المتطلعين بعض السلطة، كحقهم في ترشيح الوزراء، ومنحهم سلطات عليا فوق القانون، اختار من كل محافظة واحداً او اثنين، وقربهم إليه ثم جعل بينهم تنافساً يصبو إليه، وزرع خلف كل وزير نائباً يواليه، ووراء كل مؤسسة قوة أخرى تنافسها، في الجيش والأمن مثلاً استحدث بهدوء عشرات الألوية العسكرية المخلصة له، وجهاز أمنياً يفوق قدرات وزارة الداخلية التي تحولت الى جهاز إداري ثم أولاهن لإخوته،واصدقائه المقربين، وفي مشهد أخير جمع وجهاء قريته بعد 33 عاماً وتلا عليهم الآية الكريمة رقم 26 من سورة «آل عمران» التي تقول {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء}، كان ذلك تأكيداً على طريقة إدارته للسلطة الخاصة، ومعرفته بأن أي نزاع حقيقي داخل بلاط القصر الجمهوري ستتداعى تلك السلطة بصورة دراماتيكية.
- قد أبدو متزلفاً فيما أقوله لاحقاً، إلا أن الرئيس «هادي» هو الرئيس اليمني الوحيد من قائمة كل الرؤساء شمالاً وجنوباً من قدّم مشروعًا حقيقيًا لبلاده يحل عُقدة السلطة ويمنع تكرار الانقلابات أو التصفيات الرئاسية، لم يكن أمام اليمنيين سوى خيارين اثنين إما التفاوض مع آل حميد الدين وسلاطين الجنوب لإقامة حُكم مختلط بين السلطنة والإمامة يُقدّم بصورة عصرية ليحتوي مساحة اليمن الموحد، تنشأ من خلاله منظومة عليا تتوزع فيها المسؤولية المالكة وليس الحاكمة، ربما تكون أشبه بملكية بريطانيا، أو الاتفاق على جمهورية حُرة ودولة إتحادية مرتكزة على النظام الفيدرالي كما في مشروع الرئيس «هادي» الذي أثار أفاعي «الهضبة» لوأد مشروعه كونه سيقضي على تاريخيتهم المتسلطة في الحكم والثروة.
- الممالك والسلطنات والإمارات العائلية حسمت مسألة السلطة في جذرها التناسلي، لكنها لم تُهمل مواطنيها، وكان أساس استمراريتها هو شعور الجميع بالأمان.. بعكس الجمهوريات الانتهازية التي تغنت بالحرية والديمقراطية وقمعت شعوبها، ودخلت في صراعات نافذيها وجرّت على مواطنيها الويلات والدمار والانقلابات، لأنها ببساطة لم تحسم مسألة السلطة ولم تكن جمهورية حقيقية يتداول فيها الكرسي بصورة طبيعية دون الحاجة الى استخدام العنف والتصفيات.
- جمهوريات «جمال عبدالناصر» التي بُنيت على أسس قومية وقواعد تنظيرية براقة، لم تقدم للجيل الجديد من الشباب أي دليل على اعتبارها قوة فاضلة تستحق البقاء الطويل، فلا هي سلمت الراية وتداولت السلطة بهدوء عبر انتخابات حقيقية كانت كفيلة بتحقيق رغبة الشعوب في اختيار حاكمها الناجح، ولا أنها عوّضت ذلك الثقب الأسود بمنافع جليلة لمواطنيها قائمة على الخدمات والرعاية الصحية والوظائف، والرخاء، وخلق الفرص لأجيالها القادمة.
- لن نتعرض لخدعة أخرى من تلك الجمهوريات التي تدير المنافع في برجوازيات مخادعة وفاسدة ومتكررة، فيما تدفع الشعوب وحدها ثمن صراعاتهم على السلطة والثروة، تلك الصراعات التي لا تريد أن تنتهي لأن كرسي الرجل الأول لا يدور كما ينبغي!.
.. وإلى لقاء يتجدد
** **
- كاتب وصحافي من اليمن