د. سامي بن عبدالله الدبيخي
الأزمة المالية عام 1998م دفعت بإندونيسيا لإعادة التفكير وإصلاح نموذج التخصيص بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، للخروج من الإشكالات والتحديات التي صاحبت انطلاقته بالتسعينات الميلادية. وقد استمر تأثير الأزمة المالية على طموح التوسع بالتخصيص بالشراكة وحجَّمته، وبقيت المشاريع تراوح مكانها لما يزيد على خمس سنوات، إلا أن روح الإصرار دفع بإندونيسيا «للإصلاح الاقتصادي» كما هو طموح وتطلعات الرؤية السعودية الذي أفردت له مقالاً بعنوان «رؤية 2030، وتبنيها لنموذج التخصيص بالشراكة لتنمية الخدمات العامة والبنى التحتية وتنفيذها».
إندونيسيا، كدولة نامية، لديها حماس لتمكين القطاع الخاص وزيادة مشاركته وتحسين المناخ الاستثماري وإعطاء صورة إيجابية لجذب رؤوس الأموال المحلية والأجنبية لزيادة الإنفاق على مشاريع البنى التحتية من 3 في المئة إلى ما كانت عليه قبل الأزمة المالية 6 في المئة، إلا أن الاستثمار في اندونيسيا مصنف بعد الأزمة المالية «عالي المخاطر»؛ مما جعل المستثمرين مترددين والبنوك محجمة عن الإقراض، مما حداها إلى مجموعة من الترتيبات وتطوير سياسات التخصيص بالشراكة والتشريعات.
كخطوة أساسية، تم تكليف وزارة تخطيط التنمية الوطنية ( (Bappenas بإجراء مراجعة شاملة لمشاريع «التخصيص بالشراكة» بعد الأزمة المالية، وتقصي أسباب التأخر ومعالجة وغلق العديد من الفجوات في السياسات والتنظيم والمنافسة والعطاءات والترسية والحوكمة، والتي كان من صورها الشائعة ضعف المنافسة والشفافية، وعدم إعطاء المساحة للمستثمرين الآخرين المحلي منهم والدولي، والأخطر انتشار الفساد والمحسوبيات وتضارب المصالح. وكخطوة إصلاحية تم تكليف الوزارة بالإشراف على نموذج التخصيص بالشراكة وتحديد الأولويات مع الاستمرار بالتعديل وإصلاح التشريعات والنظام.
وكذلك تم عام 2001 تأسيس لجنة وزارية (KKPPI) تتولى وضع سياسات واستراتيجيات تسريع التخصيص بالشراكة؛ لتطوير البنى التحتية ورفع فاعلية نموذج التخصيص بالشراكة برئاسة وزير الشؤون الاقتصادية، وكنتيجة لهذه الجهود تم إصدار النظام المطور عام 2005 - حجر الزاوية لنموذج التخصيص بالشراكة بين القطاعين - متضمناً الخطوط العريضة لجميع الجهات والشركات الحكومية.
وفي عام 2006 تم إصدار الأدلة الإرشادية التشغيلية / التنفيذية التفصيلية للنظام، ونظراً لطبيعة التخصيص بالشراكة والمتغيرات المصاحبة ما زال التعديل والتطوير مستمراً لتحسين النظام وأدلته في ضوء المستجدات والتجربة.
أموال القطاع الخاص لعبت دوراً مهماً في تشييد وبناء وتطوير العديد من المشاريع الضخمة للخدمات العامة والبنى التحتية في اندونيسيا اغلبها في قطاع الاتصالات ثم الطاقة، والنقل، والمياه. وكجهة استشارية سعى البنك الدولي خلف إقناع الحكومة بعدم إصدار ضمانات حكومية sovereign guarantees حفاظاً على مكانة واستقرار الدولة ومصداقيتها وسمعتها؛ وعوضاً عن ذلك تم الأخذ بنصيحة البنك الدولي لتأسيس صندوق ضمان حكومي Guarantee Fund لمشاريع البنى التحتية ويدار بطريقة مرنة لتسهيل التحرك وتقديم الضمانات للقطاع الخاص لتحفيز البنوك على الإقراض. ويتمتع الصندوق باستقلالية خاصة لتقديم الضمانات المالية للقطاع الخاص ويطبق على عدد (6) حالات مختلفة منها مخاطر تغيير السياسات والتشريعات المصاحبة لمشاريع البنى التحتية والاستحواذ على الأرض والرسوم والقوة القاهرة وإلغاء العقد. ورغم جهود تأسيس الصندوق وحوكمته إلا انه لم يُحدث الأثر المأمول لجذب المستثمرين وطمأنة البنوك ولم تلجأ إليه الشركات الحكومية نظراً لقوتها بالسوق وعلاقتها مع البنوك.
في ضوء الاستقرار الاقتصادي والسياسي، وبمجرد أن تمكنت إندونيسيا من وضع الترتيبات لتوسيع الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتطوير التشريعات والأنظمة والبناء المؤسسي، ووضع خطة واضحة المعالم والمستهدفات أدرجت تحتها مشاريع متعددة للشراكة بين القطاعين PPP ومنها تخصيص تشييد الطرق السريعة وتشغيلها وإيجاد عائد مالي Toll Roads (فرض الرسوم على الطرق التي يتم تشييدها بالشراكة مع القطاع الخاص)، كما قامت بجذب المستثمرين من خلال عقد مؤتمرات دولية متتالية 2005، 2006، 2010م طرحت فيها فرص الشراكة الاستثمارية على القطاع الخاص، متضمنة 1500 كم من الطرق لعدد 38 مشروعاً وبمبلغ يقارب (10) مليارات دولار. وبينما شجعت الحكومة على اللامركزية في الإدارة والسياسات وقطاعات التنمية، إلا أن قطاع تخصيص الطرق بقي مرتبطاً بالحكومة المركزية، وخصصت له إعانات / دعم لمشاريع الشراكة مع القطاع الخاص ووضعت لها الضوابط، نظراً لأهميته لحراك التنمية على المستويين الوطني والإقليمي. كذلك عملت الحكومة عامي 2004 و2005 على تنظيم وتشريع عقود واتفاقيات الامتياز مع القطاع الخاص لتنفيذ وتشغيل الطرق ووضع الرسوم عليها ووضع العديد من المعالجات لقضايا حرجة سابقة Issues والتخفيف من المخاطر المستقبلية المحتملة Risks ومازالت مستمرة بالتحسين عليها. كذلك أوجدت البناء المؤسسي لها حيث أسست عام 2005 هيئة مستقلة (BPJT) لتنظيم القطاع وتشريعه ولإعداد الدراسات وتجهيز المشاريع وطرحها والإشراف عليها، وأيضاً حسنت مستوى شركتها الحكومية المعنية بهذا القطاع (PT JasaMarga) والتي لعبت الدور الرئيس بإنجاز حوالي 75 في المئة من الطرق السريعة منذ تأسيسها.
ختاماً، قصة إصلاح التخصيص بالشراكة بعد الأزمة المالية عام 1998 في إندونيسيا طويلة ومتشعبة وشيقة، وما زالت التحديات والصعوبات تصاحب التجربة رغم مرورها بمنحنى التعلم والدعم الفني الدولي، إلا أن إندونيسيا قطعت شوطا جيدا وحرصت على جذب المستثمرين من خلال إعادة هيكلة مؤسساتها وتطوير الإطار التشريعي بوضع نظام مطور لمعالجة القضايا الحرجة التي برزت خلال التطوير والطرح والتنفيذ والتشغيل، مع العمل على تقليل المخاطر وزيادة الشفافية والمنافسة، إضافة إلى تأسيس هيئات وطنية للتخصيص متعلقة بكل قطاع تضع الأنظمة والاستراتيجيات وتعد الدراسات والطرح والإشراف ومراجعة التعرفة بشكل دوري، وكذلك ترويج المشاريع دولياً وفتح السوق للشركات المحلية والدولية للمنافسة مع الشركات الحكومية ذات الباع الطويل والضليعة بهذا المجال.
إن مرور إندونيسيا بمنحنى التعلُّم والتنفيذ بعدة قطاعات تنموية اكسبها الخبرة المتراكمة، منها تخصيص الطرق السريعة بالشراكة بين القطاعين العام والخاص، حيث أصبحت وتيرة الإنجاز أسرع مع التعديلات والتحسينات واختصرت عقودا زمنية طويلة، فمثلاً ما أنجز خلال الفترة من 2015 إلى 2017 بلغ 782 كم، وهو ما يعادل ما أنجز خلال الفترة من 1978 إلى 2014 بطول 784 كم.
** **
عضو هيئة التدريس بكلية العمارة والتخطيط - جامعة الملك سعود