عبدالرحمن الحبيب
خلال ظروف جائحة كورونا ردد البعض عن حق «أن الصحة أهم وأولى من المال» في دعوة لإغلاق كافة المناشط التجارية بما فيها البنوك.. لكن هل يمكن توفير الغذاء والدواء دون عمل البنوك؟ بالمقابل يردد كثير من الاقتصاديين أن علماء الأوبئة يبالغون في تقييم المخاطر ويعقدون الوضع، لكن لا يمكن مواجهة الوباء إلا استناداً على آراء علماء الأوبئة.
من السهل القول إن الاقتصاديين وعلماء الأوبئة ينبغي توافقهم لا تنافرهم، وأن يحترم تخصص كل منهما الآخر، لكن ظهرت على مستوى العالم علاقات متوترة بين الاقتصاديين وعلماء الأوبئة خلال جائحة كورونا. «نزل الطرفان على القدم الخاطئة في وقت مبكر من الوباء» حسب تعبير مجلة الإيكونيميست التي أوضحت أنه حينها كانت هناك حاجة ماسة إلى نماذج تنبأت بالمسار المحتمل لفيروس كوفيد - 19، من أجل توجيه رسم السياسات.
نماذج المحاكاة لتوقع مسارات الأرقام هي هواية مفضلة لدى الاقتصاديين الذين راح بعضها يتدخل في نماذج علماء الأوبئة لتوقع عدد ضحايا كورونا، وصار الاقتصاديون يبحثون في البيانات بأنفسهم للحصول على نماذج خاصة بهم لتوقع عدد الضحايا دون الاكتراث بتوصيات علماء الأوبئة.. «عندما يغامر الاقتصاديون بدخول مجالات أكاديمية أخرى، يبدو وصولهم غالبًا كقوة غزو خرقاء أكثر من كونه مهمة دبلوماسية مفيدة». (الإيكونيميست)
يستخدم علماء الأوبئة، مثل الاقتصاديين، أنواعًا مختلفة من النماذج في عملهم، كل منها يخضع لشروطه الخاصة. في مارس الماضي، استخدم باحثون في إمبريال كوليدج لندن نموذجًا لحساب عدد الوفيات المحتملة للفيروس، على افتراض أن الناس والحكومات لن يتخذوا أي تدابير لوقف انتشاره. خلص التحليل إلى أنه ربما يموت نصف مليون بريطاني و2.2 مليون أمريكي بمثل هذه الظروف.. لكن عدد الوفيات حتى الآن لم يصل إلى عُشر الرقم رغم مرور أكثر من ستة أشهر.
هذه الأرقام التي افترضها علماء الأوبئة أرعبت الحكومات آنذاك لاتخاذ خطوات كبرى للتخفيف من انتشار الفيروس، لكنها قوبلت بانتقادات شديدة، معظمها من الاقتصاديين باعتبارها مبالغة غير واقعية. بينما المدافعون أوضحوا أن الناس سيتصرفون بالطبع لحماية أنفسهم من الأذى، مما يعني أن عدد الوفيات سيكون بالتأكيد أقل بكثير، فضلاً عن أن الحكومات اتخذت تدابير متشددة لمواجهة انتشار الوباء.
يعترف الباحثون في دراسة إمبريال كوليدج بشأن عدم واقعية افتراضهم؛ ففي مقال نُشر مؤخراً في Journal of Economic Perspectives، تقول إليانور موراي، عالمة الأوبئة بجامعة بوسطن، إن الاقتصاديين أساءوا فهم الهدف من النموذج، وهو وضع سيناريو أسوأ حالة كخط أساس لتقدير تأثير تدخلات السياسات المحتملة. كما تشير إلى أن انتقادات مناهج النمذجة الأخرى كانت متمثلة بالمثل في سوء تفسير الجمهور من المقصود.
موراي ترى أنه يصعب استخلاص استنتاجات سليمة من البيانات الوبائية المتاحة عندما يكون نطاق الغموض المحتمل غير معروف، على سبيل المثال: نسبة من حالات كورونا التي لا تظهر عليها أعراض إما لا يمكن تحديدها أو تتغير مع انتشار الفيروس. مثل هذا الغموض ينطبق بالضرورة عند وضع نموذج أو مسار للتعامل مع الفيروس المسبب لكوفيد - 19، وهي حقيقة قد لا يقدرها الاقتصاديون غير المعتادين على التعامل مع البيانات الوبائية. «بدلاً من محاولة التفوق على الخبراء، كان على الاقتصاديين الاستفادة من التخصص وتركيز جهودهم على الأسئلة التي لا يستطيع علماء الأوبئة معالجتها». كما كتبت موراي.
«هذا فيه ظلم بعض الشيء». كما تقول الإيكونيميست التي أردفت: نعم، بعض محاولات النمذجة من قبل الاقتصاديين كانت من عمل غير متخصصين؛ لكن المجال الفرعي لعلم الأوبئة الاقتصادي يدرس كيف تؤثر العوامل الاجتماعية في انتشار المرض منذ عقود. لقد ابتعد كثير من العمل الاقتصادي الأخير حول القضايا المتعلقة بكوفيد - 19 عن نمذجة مساره، وركز بدلاً من ذلك على المجالات التي يمكن للاقتصاديين أن يضيفوا فيها قيمة بشكل أفضل. على الرغم من الغموض المربك، عمل العلماء بسرعة كبيرة، وأنتجوا مئات الدراسات التي تقيِّم إجراء السياسات، وتحلل التكاليف الاقتصادية المرتبطة بتفشي المرض وحالات الإغلاق، وتقييم كيفية إعادة تشكيل الوباء للاقتصاد العالمي..
ومع ذلك، يمكن لتعدد التخصصات داخل الاقتصاد أن يعمل بشكل أفضل، رغم أنه موضع شك. روبرت سولو، الحائز على جائزة نوبل، رفض ذات مرة منتقدي ذلك بقوله: «عندما يريدون أن يكون علم الاقتصاد أوسع وأكثر تعددًا للتخصصات، يبدو أنهم يعنون أنهم يريدون منه التخلي عن معايير الصرامة والدقة والمشاهدة المعتمدة على المنهجية التي تفسرها النظرية، وبدلاً من ذلك (يريدون) الانتقال إلى نوع من الخطاب الفضفاض».
كل هذا مؤسف - تقول الإيكونيميست - لأن مصدر الإحباط الرئيس لعلماء الأوبئة خلال الوباء هو في نفس الوقت السبب الذي يربك مهنة الاقتصاد.. فمختصو الأوبئة لم يكونوا مستعدين للطريقة التي تم بها تسييس توصياتهم وتشويه بياناتهم العامة من قبل وكالات المعلومات المضللة، كما لاحظت الباحثة موراي. إلا أن الوباء كشف أن تأثير السياسات يتوقف أحياناً على مدى فهم الجمهور لما يتم فعله ولماذا. ويبقى الأهم هو انفتاح كلا الطرفين (الاقتصاديين وعلماء الأوبئة) والتعلم من صعوبة التواصل مع الطرف الآخر..