د. جمال الراوي
ثبت في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا)، وقد كان الرسول يختار أيّسر الأمور، خاصة في العبادات حتى لا يُثقل على الناس، ويجوّز لهم الرُخص رأفةً بهم وتقديراً لأحوالهم، وفي الشقّ الثاني من هذا الحديث يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التبشير والتفاؤل والابتعاد عن التنفير والتشاؤم والطيَر.
أحدُ المُنفِّرين حضر أحد المجالس، ثم نظر في وجه صاحبه وقال له: (ما بالك شاحب الوجه وضعيف البنية... هل تشكو من أيّ مرض؟!)، فأجابه بأنّه لا يشكو من أيّ شيء، وحالته الصحية على ما يرام؛ لكنّ كلمات المُنفِّر زرعت الشكّ في نفسه، وبقي أياماً ولياليَ يفكّر في كلامه، مما اضطرّه، في نهاية الأمر، إلى عرض نفسه على طبيبٍ، وإجراء فحوصاتٍ مختبرية وصور شعاعية وغير ذلك، ودفع مصاريف كثيرة، عدا عن الهمّ والخوف اللذين لازماه خلال فترة من الزمن، حتى تأكد أنّه خالٍ من الأمراض.
بشِّروا ولا تنفِّروا، وازرعوا الأمل وأشيعوا البشرى في المجالس؛ فكم من كلمةِ تنفيرٍ وتشاؤمٍ أحالت حياة بعض النّاس إلى همٍّ وحُزن وقلق! ... فقد تُخبر ممن هم في جوارك في المجلس، بأنك ركنت سيارتك في موقف ما، فيتصدّر أحدهم الحديث ليقول لك بأنّه سوف يتم سحبها ومخالفتها! وقد يكون هذا الاحتمال غائباً عن بالك، فتبدأ التفكير في حال سيارتك، وتصبح الشغل الشاغل لك، وقد تضطر إلى مغادرة المجلس للتحقّق من الأمر! ... وقد تقول بأنك اشتريت شيئاً ما، فيبدأ أحدهم في ذكر مساوئه؛ فيصبح منبوذاً وتافهاً عندك، فلا تخطر على بالك سوى مساوئه؛ فيفقد قيمته بعد أنْ كان مرغوباً عندك! ... وقد تشتري سيارة وتجدها مريحة ورخيصة الثمن، فيأتيك من يذكر لك مساوئها، ويسهب الشرح في تعداد عيوبها، فتبدأ الوساوس والأوهام تغزو خاطرك، لتنتظر الفرصة المناسبة للتخلّص منها، وربما بيعها بثمنٍ بخس!
إذا حدّثك أحدهم عن شيءٍ اشتراه، فبارك له فيه، وحاول أنْ تُشير له على محاسنه، وادعو له فيه بالخير والبركة ... وإذا رأيت اصفرار وجه أحدهم وشحوب سحنته، فلا تزرع في نفسه الشك والخوف، وتثير لديه المخاوف من المرض ... وإذا استشارك أحدهم عن أمرٍ ما، ورأيت فيه خيراً له؛ فحاول أنْ تُرغّبه به، وتدعو له بالتيسير ... وإذا أسرّ لك أحدهم مخاوف وتوقّعاتٍ سيئة، فحاول أنْ تطمئن باله، وتُشيع في قلبه روح الأمل والتفاؤل.
هو، في حقيقة الأمر، طبعٌ مُتأصّلٌ عند بعض النّاس، ممن يلجؤون إلى تنفير الناس من حاجياتهم، ممن لا يعرفون سوى تعداد المساوئ والعيوب فيها؛ همّهم تنفير الناس وإشاعة روح التشاؤم والسوداويّة، ولا يرون من الأمور سوى جوانبها المًظلمة؛ لا يهمّهم مشاعر النّاس، ولا يدركون بأنّ النفوسَ تضْعُف، والمشاعر تنْقُص، عند سماع التنفير، وتفرح وتطمئن للترغيب؛ الذي يشيع الأمل وينشر التفاؤل.
جدالٌ قديم بين الأطباء، حول إخبار المرضى بحقيقة مرضهم، وبخاصة المصابون منهم بمرضٍ خبيث؛ إذ يميل كثيرٌ من الأطباء إلى عدم الإفصاح عن التشخيص، حتى لا تُصبح حياة هؤلاء المرضى سوداء أكثر من ذي قبل! وهذا ما يطلبه الأهل، أيضاً، حِرصاً منهم على مرضاهم، لأنّ معرفة المريض بمرضه تؤدي، في بعض الأحيان، إلى تردي حالته! ... وقد قيل بأنّ للنفس إقبالاً وإدباراً، والمرضُ يهوي بها في مكانٍ سحيق، فتصبح ضعيفة وعاجزة عن حمل الأثقال والهموم، وقد لا تستطيع تحمّل حقيقة مرضها، خاصّةً إذا كان ميؤوسَ الشفاء منه!