د. محمد عبدالله الخازم
أعلنت بلاده الأرجنتين الحداد عليه ثلاثة أيام. نعاه عالم الكرة شرقاً وغرباً، حتى صديقه اللدود بيليه قال عنه كلاماً طيباً. مع استثناء صديقنا الإنجليزي - ابن الزلفي - الذي (شالها في قلبه) ولم يغفر للفتى الذهبي هدفه الذي سجله بيده في إنجلترا. صديقنا الذي أصبح (مطوعاً) إنجليزياً محتجاً على مقولة مارادونا «هذه يد الله» كنايةً عن اليد التي سجل بها هدفه في إنجلترا.
لا تسامح مع السرقات إلا سرقة يد مارادونا للكرة، تسامح معها العالم وليس الأرجنتين فقط. اليد التي أعادت كرامة شعب الأرجنتين بعد هزيمة الفوكلاند وكرامة كل المستعمرات البريطانية السابقة ضد المستعمر. اليد التي يتخيلها كل أرجنتيني ساكن في بيت من صفيح أو قصر من رخام تصفع وتدمع عين المرأة الحديدية، تاتشر.
حتى بلادنا قسمت جماهيرها يا مارادونا، جزء يحاول أن يغيب تميزك وتفوقك وآخر يرقص مع أهدافك. أفقدت معلقنا الكبير -شفاه الله- صوابه حينما وصفك بـ«معبود الجماهير» فعوقب واستنجدت الجماهير (المعادية) بكل القوى ليهطل الشتم ليس لك أيها الفتى الذهبي فقط، بل لكل ما هو راق. فجأة أصبح همهم الفقراء والمعوزين وحفظ النعمة، يستغفرون ربهم من إهدار المال للاحتفاء بعبقريتك في يوم التكريم الفخم من الراقي. وداعاً أيها الفتى الذهبي، ستبقى في مخيلة الفتى الصغير، انتشي بك لابساً قميص المعشوق الراقي. كلما داعبت الكرة رقصنا في المدرجات وخلف الشاشات. يا له من منظر ساحر، هذا الفتى القصير (المربوع القامة) الذي أشغل الدنيا وهز كرامة زعيمة الكرة في أرضنا، يعانق أمين دابو وبقية الرفاق!
حتى الفيزياء علمتني فيها درساً: يتحرك الفتى الذهبي مارادونا بقوة بين خصومه لأن مركز جاذبيته قريبة من الأرض وبنيته المربعة تجعل قاعدته مستقرة غير قابل للسقوط ، قادر على المراوغة والكر والفر. فهمت حينها لماذا ماجد أحمد عبدالله يسير معكوف الساقين، ليقرب مركز جاذبيته من الأرض. رغم أن حبيبنا ماجد طول الله عمره قريب من الأرض وأهلها بطيبته ونقائه.
ابن الأحياء الشعبية لم يستطع الابتعاد عن بدائية الأرض التي أنجبته فبقي الفتى الذي لم يكبر عقله رغم كبر أرصدته من المال ومن المحبين البشر. كنا نود تقديراً له أن نعبر عنه «أضاعوني وأي فتى أضاعوا» لكنه كبر وأضاع نفسه بنفسه. الوصول للشهرة والمجد ليست ضماناً للصحة والسلام الدائم. كان ألمك الداخلي أيها الفتى الذهبي أكبر من قدراتك، هربت للإدمان وبعد كل إفاقة تعد نفسك بألا تعود، لكن قدرك لا يطيعك. لم يتخل عنك محبوك، لكنك لم تكن تمنحهم الفرصة ليساعدوك، لم تصدقهم عندما حذروك من الأعداء الذين استخدموك في ألاعيبهم. منحتك الكرة الوهج حتى عنان السماء، لكنها منحتك كذلك الألم حتى النخاع. حتى قال القدر كلمته: حان وقت الوداع...
ستغادر بجسدك لكن التاريخ سيحفظ اسمك وتاريخك، أسطورة كروية لم تترك لنا صور الأهداف الخرافية فقط، بل حكايات الشهرة والاندحار، النشوة والعذاب، المجد والانكسار... وداعاً أيها الفتى الذهبي مارادونا.