د.ثمامة فيصل
في الوقت الذي لا تزال خطاطيف الجائحة منغرزة في مخيلة كل إنسان، وأهوالها ومخاوفها مخيمة على ذهنه وقلبه، وأشباحها لا تزال تطارده، وموجاتها لا تكاد تهدأ أو تنحسر، سنحتْ للهنود بشكل عام وللمسلمين منهم بوجه خاص فرصةٌ للفرح والسعادة في الأيام الأخيرة، بحيث إن جامعة هندية إسلامية متميزة ومرموقة قد أكملت مائة عام للتميز في مجال التعليم العالي وفي خدمة الوطن الغالي.
نعم أتحدث عن الجامعة الملية الإسلامية الكائنة بنيو دلهي، التي دَشنتْ في الـ29 من أكتوبر الماضي احتفالاتِها بمناسبة مرور مائة عام على تأسيسها، مع أن عددًا قليلاً من الناس استطاعوا حضور الحفلة الافتتاحية لهذه الاحتفالات بسبب الجائحة.
ومما زاد المسلمين الهنودَ بهجةً وسعادةً بهذه المناسبة أن هذه الجامعة حازت المرتبة الأولى في آخر تصنيف رسمي صادر من قبل وزارة التعليم في أغسطس الماضي للجامعات الهندية التابعة للحكومة المركزية البالغ عددها 54 جامعة. ومع أن كثيراً من هذه الجامعات عريقة وتاريخها حافل بالإنجازات الأكاديمية الباهرة، إلا أن الجامعة الملية الإسلامية تفوقت عليها، وأحرزت قصب السبق في مجال التعليم العالي في الهند.
ولو ألقينا نظرة خاطفة على تاريخ هذه الجامعة، لوجدنا أن فكرة تأسيسها نبعت من معارضة الهنود لسياسة المستعمرين البريطانيين التعليمية في الهند قبل استقلالها. فكان همُّ المستعمرين استغلالَ المؤسسات التعليمية لإعداد الكوادر اللازمة لإدارة مكاتبهم وتنفيذ سياستهم. فلم يكن أمام المناضلين للحرية أي خيار سوى اللجوء إلى سياسة اللاتعاون ومقاطعة كل ما يمتُّ إلى الإنجليز وحكومتهم بصلة. ففي مثل هذه الظروف المعادية خطرت في أذهان بعض القادة الهنود من السياسيين والأكاديميين فكرة تأسيس جامعة هندية إسلامية هدفها خدمة الوطن بإعداد جيل مثقف من الهنود يتميز في مجال التعليم ويساهم بكل صدق وأمانة في خدمة الوطن وتحريره من براثن الاستعمار، فاجتمعوا في مدينة عَلِيْ كَراهْ، وأسسوا بها مؤسسة تعليمية باسم الجامعة الملية الإسلامية في 29 أكتوبر 1920م. وهكذا أُسِّسَ هذا الحصن الحصين وهذا الصرح العلمي المنيع. وفي عام 1925م نُقلت الجامعة إلى دلهي حيث تقع اليوم.
ولما فكر رواد الجامعة في إغلاقها بعد مدة من تأسيسها بسبب قلة الموارد المالية، خالف رائد حركة استقلال الهند المهاتما غاندي رأيَهم مخالفة شديدة، وقال بكل صراحة إنه لن يسمح أبدا بإغلاق الجامعة مهما استصعب الحفاظُ على المؤسسات التعليمية البلدية، وإنه لن يتردد حتى في تسوُّل المال لو اضطُرَّ إلى ذلك من أجل هذه الجامعة».
وقد أنجبت هذه الجامعة خلال مائة عام من مسيرتها التعليمية المجيدة مئات من الشخصيات الخالدة في العلوم والآداب والسياسة والصحافة والسينما والألعاب تُكتب أسماؤهم بماء من الذهب، بل للجامعة أياد بيضاء في تطوير وإثراء كافة العلوم والفنون الشرقية منها والغربية، القديمة منها والحديثة. وتتكون الجامعة حاليا من 9 كليات وتعرض نحو 270 برنامجًا تعليميا، وتفتخر بتقديم أفضل تسهيلات وخدمات لطلابها وأساتذتها على حد سواء.
ومما يميز هذه الجامعةَ أنها -في جانب- لم ترض قط بالتدني في مستواها العلمي الرفيع، وفي جانب آخر تقدم نموذجًا حيًا لروح الأخوة والتعاون والتسامح بين الطلبة والأكاديميين القادمين من مختلف أنحاء العالم ممثِّلين مختلف الديانات والثقافات والطبقات، فإنها تضمهم جميعا بين جناحيها برحابة الصدر واستنارة الفكر دون أي تمييز ديني أو عنصري.
ولم تكن هذه الجامعة مجرد مؤسسة تعليمية عبر تاريخها الطويل، بل إن روح النضال والكفاح من أجل إثبات الحق وإزهاق الباطل، تلك الروح التي أُسِّسَتْ هذه الجامعة لتعزيزها قبل مائة عام، ظلت قائمة بين أبنائها ومنسوبيها حتى اليوم. فلما قررت الحكومة الهندية العام الماضي تنفيذ قانون الجنسية الجديد - الذي خالفه المسلمون الهنود باعتباره تهديدا خطيرا لوجودهم في هذا البلد - أعلن أبناء الجامعة معارضتهم الشديدة لهذا القانون، وأقاموا المظاهرات ضده مطالبين الحكومة بإلغائه، ومن جرائه تعرضوا للاعتداءات والإجراءات الصارمة ضدهم من قبل الشرطة والسلطات الحكومية.
فيدرك أبناء هذه الجامعة جيدا أنهم أشبال تلك الأسود التي ضحت بكل غال ونفيس في سبيل خدمة الوطن، فيرون من واجبهم الوقوف ضد الباطل أيا كان شكله. ويعرفون أنهم روادٌ في مجال التعليم العالي، بقدر ما هم روادٌ في خدمة وطنهم الغالي.
** **
- أكاديمي وصحافي هندي