احتفلنا في العاشر من شهر أكتوبر كما في كل عام باليوم العالمي للصحة النفسية. ومر الطب النفسي بتطورات مهمة وعظيمة خلال الـ 70 عاما الماضية غيرت ملامح هذا الحقل، والطبيب النفسي من معالج نفسي يعتمد بشكل رئيسي على جلسات العلاج النفسي والتدخلات السلوكية إلى التركيز على النواحي البيولوجية والطبية البحتة، ورغم ذلك لا زلنا نعاني من الوصمة الاجتماعية للعلاج النفسي.
وتمكن الأطباء من التغلب على إحساسهم بالعجز بقدرتهم على علاج أمراض نفسية شديدة مثل الذهان واضطراب المزاج ثنائي القطبين، إلى الإحساس بالتفاؤل بعد تطوير وسائل علاج بيولوجية ودوائية دقيقة والابتعاد عن أساليب عشوائية للعلاج تبدو لنا الآن ضرباً من الجهل ولكنها كانت العلاج الوحيد المتوافر في ذلك الوقت.
في خمسينيات القرن الماضي كان علاج مرضى الذهان هو إيداعهم في مصحة عقلية لبقية حياتهم بسبب خطورة سلوكياتهم على أنفسهم أو من حولهم، وكان العلاج المتوافر بالإضافة للعلاج التحليلي النفسي والذي ليس له قيمة تذكر في علاج حالات الذهان هو تقييد حركة المرضى بملابس مخصصة لهذا الغرض أو في أسرة هذه المنشآت الصحية حتى يهدأ المريض. وتقدم الأسلوب العلاجي بعدها بسنوات باستعمال الأدوية المهدئة وهدفها هو السيطرة على نوبات العنف والتي تنتشر في بعض المرضى، ثم تم اكتشاف الفائدة العلاجية للصدمات الكهربائية، ولكنها استخدمت بشكل سلبي وعقابي في البداية تركت وصمة اجتماعية في المجتمعات الغربية أدى إلى قلة استخدام هذا العلاج رغم التطور الكبير الذي طرأ عليه كاستخدام التخدير وأدوية جعلت العلاج بالصدمة الكهربائية آمن وبسيط. وتم بعد ذلك اكتشاف العلاج بالرنين المغناطيسي والضوء للاكتئاب، كما تم اكتشاف جراحات للدماغ لبعض حالات الوسواس القهري الميئوس منها، وأخيرا حصلت تطورات كبيرة في مجال الأدوية وأصبحنا نعرف الشيء الكثير عن الأدوية النفسية، وتم تحديد في كثير من الأحيان تأثيرها على نواقل عصبية في الدماغ مثل السيروتونين والدوبامين وفي مناطق معينة، بل يتم في بعض الأحيان قياس مستويات معينة للنواقل العصبية والهرمونات في الدماغ وبعض أجزاء الجسم في بحوث متطورة أحدثت ثورة عظيمة في مجال علاج الأمراض النفسية.
وأود ذكر مقال لطبيب نفسي مشهور د. تشارلز برادلي في خمسينيات القرن الماضي عند تجربة عقار الريتالين في علاج حالات فرط الحركة والانتباه في الأطفال بأنه حل محل فريق كامل من المختصين والعلاج في المستشفى لعدة شهور بمحصلة تحسن محدود في المقابل، كانت وصفة من الريتالين تحدث تغييرا شبه سحري وأصبح الأطفال أقرب إلى الطبيعة في سلوكهم وحياتهم وتعليمهم بعد أن كانوا حالات ميؤوس منها بوصفهم يعانون من اضطراب أخلاقي حسب وصف المقالات العلمية المنشورة في ذلك الوقت. وقد بدأت بوادر أبحاث علم الوراثة والجينات تظهر في مجال الطب النفسي والطب بصفة عامة، ومن المتوقع أن تحدث هذه الاكتشافات ثورة في خلال العشرين سنة القادمة ومن المتوقع ظهور أنواع من العقاقير والعلاجات لحالات تعتبر حالياً لا علاج لها مثل التوحد.
أقول لمن يرددون النظرة السلبية عن الطب النفسي بأن أسباب الأمراض النفسية هو خلل بيولوجي في النواقل العصبية أو الهرمونات مثل أي مرض طبي آخر وعلاجه لا يختلف، فبالإضافة إلى العلاج الدوائي، هناك العلاج السلوكي والنفسي كما أن سبب الأمراض النفسية ليس ضعف الدين, الشخصية أو التربية. روى مسلم في صحيحة عن النبىِّ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: (لِكلِّ داءٍ دواءٌ، فإذا أُصِيبَ دَوَاءُ الدَّاءِ، برأ بإذن اللهِ عَزَّ وجَلَّ).
** **
- د. أحمد الالمعي
@almaiahmad