إهداء إلى روح الصديق القاص صالح الأشقر رحمه الله
1
صباح حائلي جميل أشرقت شمسه لتعلن صلاة العيد لأول مرة داخل المنازل، صار الناس يستديرون حائرين في منازلهم يمارسون أكثر من نشاط دون الخروج منه، ينظرون إلى الشوارع الفارغة من الناس.
قرر الحميدي أن يجعل هذا العيد عيدا جميلا، ارتدى ملابس العيد وهبط الى غرفة الجلوس في الدور الأرضي، شاهدته زوجته حسناء فرحا، قالت ضاحكة عيدك مبارك، وراحت تغني:
« البارحة يالحميدي ضاعت أفكاري
صندوق قلبي تخرق وش اسوي به»
ابتسم لها ،عايدها وقال «صح لسانك»
ألقى السلام على أمه الجالسة على المركى المريح، عايدها وطبع قبلة على رأسها قبل ان تقوم من مجلسها ترحيبا به.
قال لها الحميدي «عيد مختلف يا أمي، أول مرة نعيد بالبيت!»
ردت عليه قائلة «الشكوى لله ياوليدي»
2
أحضرت حسناء القهوة بالدلة الذهبية وتمر «الحلوة المجرش»، قال الحميدي وهو يقدم حبة التمر لأمه «هذا من حشية تمر» الحلوة «هذه السنة» أخذتها وهي تقول «سلمت يا وليدي، وعساك دايم».
قدمت حسناء صحن «المقشوش»* والعسل ، وقالت تفضلي خالتي، هذا مقشوش العيد صلحته اليوم. ردت ام الحميدي «الله يعطيك العافية».
جلبت حسناء إبريق الشاي الصيني الملون، وكاسات الشاي المذهبة، وصبت أول كاسة ومدتها لأم الحميدي وقالت «سمي خالتي كاسة شاهي»
ابتسم الحميدي وقال طربا:
«أريد شاهي خفيف، ومخدر بورقه...
واللي يصبه لطيف يمشي ويدق رقبه»
ابتسمت أم الحميدي، وقالت:
«عندك هالشيخة حسناء»
فرحت حسناء وضحكت بعيونها الواسعة كالغدير، وغمزت بعينها للحميدي..
قالت أم الحميدي «الحمد لله على النعمة والأمن»
تساءل الحميدي قائلاً لأمه «وش تقولين بهالنشمية حسناء؟!»
قالت ام الحميدي «هذه شيخة والله يسعدكم»
فرحت حسناء وقالت «ربي يخليك يا خالتي»
3
تحدث الحميدي مع العائلة عن العيد «في كل مرة يؤدون الصلاة في مسجد العيد، ويشارك الجيرانه وأهل الحارة في إخراج الأعياد في حارتهم في الأيام العادية، وفي الأيام الباردة داخل مسجد الحارة».
وجه حديثة لأبنائه «كنا عصر العيد نلبس ملابس العرضة، ونجتمع في مكان العرضة، نتجمع ، تتكامل صفوف العرضة، وينتظم ضاربو الطبول، نبدأ القصائد ونعرض ساعات حتى يحين موعد صلاة المغرب، ونفترق الى منازلنا، ثم نبدأ المعايدات من منزل الى منزل، أو نلتقي في «شبة العيد» نعايد بعض.
قالت أمه «خير ياوليدي، ترحل «الكرونا» وتجتمعون الى العرضة إن شالله قريبا»
4
كانت العرضة تسكنه منذ ليلة العيد ،نهض الحميدي من مجلسه، صعد الى غرفته، ارتدى ملابس العرضة الدقله والمرودن فوق ملابس العيد .هبط الى الدور الأول وقال لحسناء
«بالله أعطيني المحزم والسيف»
قالت حسناء «أبشر»
أحضرت حسناء المحزم والسيف المذهب ، ارتدى الحميدي الثوب المرودن الأبيض الفضفاض ذا الاكمام الطويلة، لبس الدقلة الطويلة الملونة والمطرزة التي تغطي كامل جسمه، ربط الحزام الأسود على صدره، وثبت الخنجر فوقه، حمل السيف المذهب. وقف امام أمه شامخا بملابس العرضة، سألها قائلا «وشتقولين بولدك؟!»
ابتسمت واشرق وجهها المتغضن وقالت «يابعد حيي هالزول»
تمشى في ردهات قصره الصغير مرتديا ملابس العرضة وسيفه الذهبي يلمع في يده اليمنى.
أطل الحميدي على الشوارع الفارغة من الناس، وصل الى مدخل الرجال في قصره المطل على الشعيب، وقف أمام المرآة الكبيرة في مدخل صالة الرجال، ابتسم فرحا بالعيد، بدأ يغني عارضا:
«دقوا الدمام تكفون اليوم عيد»
ثم ردد قصيدته المفضلة:
«ياعيال شيلوا مابقي عمر طويل
كله عمار قافية ديانها»
مال يمينا ويسارا في عرضته أمام المرآة.
تخيل نفسه في ميدان العرضة، سمعت صوته حسناء ، ابتسمت ثم ضحكت ، التفتت الى خالتها أم الحميدي الجالسة في مكانها بالصلة تتناول «شاهي النعناع الجبلي «الذي تحبه، قالت لها ضاحك» تسمعين يا خالتي عرضة الحميدي؟!»
ردت أم الحميدي «وين هو به ؟!»
ردت عليها حسناء «ولدك يعرض في مدخل الرجال ، فرحان بالعيد»
قالت أم الحميدي «خليه يفرح بالعيد، الله يديم الفرح....»
صوتت حسناء ضاحكة لأبنائها تقول «قوموا شوفوا أبوكم عيد قبلكم، يعرض، هزه الطرب بالعيد ....»
نهض الأولاد والبنات وراحوا يشاهدون أباهم وهو يعرض أمام المرآة،
فرحوا به ، شارك معه محمد وفارس ، واكتفت ابنتاه نورة وريم في التصفيق.
ضحكت حسناء بصوت مسموع وهي تقترب منه أمام المرآة، شاركته العرضة ، ابتسم لها ولأبنائه.
قالت حسناء «ماشالله أنت اللي عيدت اليوم لحالك ونسيتنا «الكرونا»
ابتسم لهم جميعا وهو يتمايل منسجما مع نفسه كأنه في عرضة كبيرة.
توقف الحميدي عن العرضة، عاد الى الصالة ، نظر الى أمه وقال «عرضنا اليوم ، تذكرت أصدقائي»
5
اتكأ الحميدي على الكنب الأنيق والمريح، أخذته سنة نوم، حملته عبر رحلة حلم يتمناه، وجد نفسه في ساحة العرضة بالشعيب، رحب به جماعة العرضة والحضور، عيدوا عليه، أخذ مكانه في صف العرضة، تأكدت جماعة العرضة من جاهزية العارضين، استعد أبو هلال مع ضاربي الطبول وبقية الصفوف، تقدم قائلا:
«دقوا الدمام تكفون اليوم عيد
عرضتن ياعيال الأسود نجيد فنونها
ردد العارضون البيت الأول ومعهم قارعو الطبول الكبيرة والصغيرة في وسط الميدان،
تقدم أبو هلال وأكمل القصيدة بقوله:
«نلبس الأكوات والبشت والثوب الجديد
والعذارى كلهن يلبسن مزيونها»
ردد العارضون معه، دق ضاربو الطبول الكبيرة وسط العرضة، تبعهم ضاربو الطبول الصغيرة ، عزفت الطبول انسجاما مع الكلمات واللحن ، لعب العارضون بالسيوف الذهبية في صفوف منتظمة، برز الحميدي وأبو هلال وسط العرضة بملابسهم الزاهية وسيوفهم الذهبية، أجاد ضاربو الطبول الكبيرة والصغيرة إيقاع العرضة، لعب ضاربو الطبول ببراعة في الميدان، لمعت الوان الطبول المتعددة و الجذابة، تقاربت الصفوف ، تلاحم العارضون كصف واحد، فرح العارضون والتحموا تمايلوا ، فرح الناس الحاضرون صفقوا صفروا، زغردت النساء زاهيات بملابس العيد قرب الأشجار، طرب الناس كما لم يطربوا من قبل.
6
توقفت العرضة هنيهة من الزمن استعد العارضون للقصيدة الثانية، نظر العارضون الى الحميدي الذي بدأ فرحا ومتحفزا لقصيدة العرضة، تقدم وقال:
«ياعيال شيلو ما بقي عمرن طويل
كله عمارن قافي ديانها»
عرض الناس انتظمت الصفوف من جديد، تمايل العارضون مع القصيدة واللحن ، تمايل الحميدي طربا بجانب صديقه أبو هلال، بملابسهم المرودنه واحزمتهم وخناجرهم وسيوفهم الذهبية ضربت الطبول وجاء اللحن مع الكلمات حماسيا رائعا، انتشى الحميدي، تذكر صديقه الشاعر عبدالله الأشقر، تذكر بقية أصدقائه وجماعته وهم يؤدون هذه القصيدة في العرضة أيام الأعياد، شعر بنشوة ثم شبه تعب ، تحول الى شبه دوخه، سلم سيفه الى صديقه أبو هلال جلس على الأرض سقط مغشيا عليه انتبه له أبو هلال وصاح قائلا:
«وقفوا العرضة يا جماعة الحميدي الحميدي تعب.......»
توقفت العرضة اقتربوا من الحميدي وجدوه مغما عليه، أحضروا الماء رشوه فتح عينيه استيقظ وقال بصوت منحفض «وين عبدالله الأشقر» تساءل الناس عن الأشقر!!
نهض الحميدي وتحدث حديثا يشبه الهذيان قال بصوت مسموع وين الأشقر؟!
لحظات سمعت خطوات وصوتا قريبا من رجل دخل العرضة ملؤه الفرح والشموخ وقال:
«الأشقر عندك ، نظر اليه الحميدي لم يصدق ! فرح به وسلم عليه وعانقه، صوت الحميدي يالله يالله اعرضوا أين السيف؟!
احضر السيف سلمه الحميدي للأشقر، تقدم الأشقر وقف أمام العرضة وأنشد:
« ياعيال شيلوا مابقي عمرن طويل
كله عمارن قافي ديانها.....»
غنى العارضون وضاربو الطبول معه تمايلوا مع العرضة فرح الحميدي وتمايل مع صديقه الأشقر وأبو هلال.... تقدم الأشقر واكمل القصيدة قائلا:
«أنا احمد اللي ياعطى ماهو بخيل
يعطي العطايا مايريد أثمانها...»
شارك ضاربو الطبول مع القصيدة واللحن، انسجمت العرضة، تفاعل العارضون وتمايلت الصفوف، لمعت الملابس والسيوف والطبول الملونة، تقدم الحميدي والاشقر وأبو هلال وسط الميدان، تقاربت الصفوف تداخلت، تحمس العارضون.
نادى الشاعر الأشقر بصوت عال:
«وين جوفان ؟!» سمع صوته العارضون، نظروا بوجوه بعض ، تساءلوا «من هو جوفان ؟»
لحظات ، تقدم رجل طويل ، بوجه صبيح ولحية حمراء، وقال «انا جوفان !» استقبله الحميدي والأشقر وأبوهلال، سلموا عليه وفرحوا به، أشر له الحميدي بالتقدم للعرضه، دعوا له بسيف، ترجل ميدان العرضة جوفان وقال منشدا:
«سلام واثني سلام
للي حكم نجد كله»
استعادت العرضة حيويتها من جديد، لعب العارضون بالميدان، تألق أصحاب الطبول بتناسق وانسجام مع إيقاع القصيدة، اقترب الحميدي من ضاربي الطبول صوت من جديد:
«وين عقيل؟!» تقدم شاب أسمر طويل من بين فرقة ضاربي الطبول، قذف بالطبل الملون الى الأعلى، قفز وتلاقاه بحركة بارعة وفرح وحماس، واستمر بالضرب عليه بلحن مؤثر، عمت الفرحة العارضين، كبرت العرضة توسعت، تفاعل الناس معها، أشتركوا فيها من كل جانب، زغردت النساء من جديد، فرح الأطفال ـ رقصت النخيل اهتزت عسبانها وتمايلت الأشجار، فرحت رمال الشعيب، تحول المشهد الى فرح جماعي، سعادة، حفلة إنسانية - مكانية فوق بطحاء الشعيب.
7
تقدم أبو هلال وكبر إيذانا بانتهاء العرضة، التفت الحميدي الى صديقيه الأشقر وجوفان ليدعوهما الى القهوة لم يجدهما، التفت يمنة ويسرة لم يجدهما، دمعت عيناه ثم قال بصوت عال:
«تقهوى ياجماعة.. القهوة زاهبة والحياة ذاهبة»
اقترب من صديقه أبو هلال تماسكا الأيدي أخذا طريقهما الى منزل الحميدي ودموع حرى تنسكب من عينيهما وتنحدر عبر بطحاء الشعيب.
8
استيقظ الحميدي من حلمه على صوت «حسناء» يقول «يالله العيد جاهز، اأمك وأبناؤك وبناتك ينتظرونك»
نهض من جلسته، ذهب الى المغسلة غسل وجهه، بحر الحميدي بعيونه، جذبته حسناء بعيونها المكحلة وحليها المتلألئة ورائحة عطرها الزكية. قال مازحا لها « ياطربتي هل تعايدنا؟!»
... ... ...
ملاحظات:
- المقشوش: أكله حائلية تتكون من الدقيق والسكر والسمن والعسل.
- الشاعر عبدالله الأشقر والشاعر سعود العيد الملقب بـ(جوفان): رحمهما الله شاعران من مدينة حائل.
** **
- ناصر محمد العديلي