محمد ناصر الأسمري
وأنا أقلِّب في مكتبتي المنزلية عثرت على كتاب صغير الحجم للشيخ الوالد العزيز محمد بن عمر بن عبد الرحمن العقيل (أبو عبد الرحمن بن عقيل الظاهري)، عنوانه (الحباء من العيبة غِب زيارتي لطيبة) الصادر عام 1413هـ - 1992م، تحدث الظاهري - عفا الله عنه - عن رحلة قام بها للمدينة المنورة حاملا معه حقائب وأكياس من كتبه ومخطوطات؛ بهدف الاستمرار في البحث والتحقيق والتدقيق والمراجعة، وهذه عادة للشيخ ابن عقيل فقد فعل الترحال لأبها وغيرها لنفس الغرض والأمل.
وبالعودة إلى قواميس عربية وجدت تعارف للحباء والعيبة :
الحِبَاءُ : ما يحبو به الرجُلُ صاحبه ويُكرمه به، الحِبَاءُ :العَطاء، ما يُكْرِم المرءُ به صاحبَه.
العَيْبَةُ : وعاءٌ من خُوص ونحوِه يُنْقَل فيه الزَّرعُ المحصودُ إلى الجَرين، العَيْبَةُ من الرّجل: موضعُ سِرِّه.
أشار ابن عقيل إلى عدد من الفضلاء في المدينة المنورة، رحم الله من رحل منهم وعمَّر الله من أنسأ الله لهم الأجل، الذين تدارس معهم في موضوعات وأفكار في كتب متنوعة من الفقه والأدب، وكيف صحح له عدد منهم بعض ما كان يظنه قاب قوسين أو أدنى من الوضوح والحقيقة،كل ذلك في مطارحات فكرية راقية نثراً وشعراً وطرفاً.
تعرف الوالد ابن عقيل سلمت براجمه من الاوخاز على عادات وسلوكيات مجتمع المدينة المنورة والسمات التي تجعل منهم مجتمعا عولميا من مختلف المنابت والأصول قبليا وغير ذلك من خلق الله الذين كانت المدينة لهم استقرارا وسكنا.
وقد استوقفتني طرفة رواها عن رجل من رجالات المدينة وهو الشيخ ابراهيم غلام - رحمه الله - وقد كنت اعمل في وزارة الزراعة والمياه يافعاً وإبراهيم غلام هو مدير الشئون الزراعية في المدينة المنورة، وهو رجل باسم حلو اللسان.
تقول القصة : إن شاعرا سودانيا بصحبة خالد خليفة - رحمه الله - اطار عنه الكرى وهو يردد شعرا أعده لمدح الملك سعود - رحمه الله - ويقطع تفعيلاته، فلما اخذوا مضاجعهم وغشاهم النعاس استل ابراهيم غلام القصيدة فنام ما تيسر له ثم سبقهما إلى الديوان الملكي . أما السوداني فلما أفاق ولم يجد أوراقه دون علي عجل ما بقي في ذاكرته، فلما وصل خالد وضيفة السوداني إلى الديوان وأخذا مقاعدهما وجدا ابراهيم غلام يلقي القصيدة على طويل العمر وكأنها من بنات أفكاره، ومن ضمنها:
أرادت ولما أردت ترددت
وما علمت أني قصدت سعودا
وما علمت أني بآمال امة
قصدت أبا الخيرين اطوي البيدا
درست رجل الشرق والشرق واسع
فكنت أبا المنصور اصلب عودا
وأكثره بالمسلمين ترفقا
وأعظمهم يوم الفخار جدودا
وبيَّن ابن عقيل: وكان في القصيدة بيتان يدلان على صاحبها الحقيقي، ولكن الأستاذ ابراهيم غلام طمرهما، وأحد البيتين قوله:
ذريني فسوداني غدا لي محنة
وأصبح عيش الحر فيه نكيدا
وقوبلت القصيدة بالاستحسان والإكرام للشاعر، والشاعر السوداني الحقيقي يرى، ويسمع، ويتقطع حسرة، ولا يستطيع أن ينبس بشفة.
ولما انفض المجلس لحق خالد خليفة وضيفه ابراهيم غلام ليعتبا عليه، فقابلهما بكل برودة.. عسى أن لا أكون لحنت!!)
هذه هي الطرفة، وقال الشيخ ابن عقيل (وشك عندي أن ابراهيم غلام استباح الشاعر السوداني، وأعطاه الجائزة التي دفعت لقصيدته، وبيَّن لطويل العمر حقيقة الأمر، ولكن ابراهيم غلام لم يذكر ذلك في حديثه ليبقى الموضوع مثيرا).
في هذا الكتيب الكثير مما يمكن أن يكون تاريخيا اجتماعيا لقادة الرأي وشداة الأدب في طيبة الطيبة، فقد سجل أسماء عدد من أولئك الفضلاء، وأنا جد سعيد أنني عرفت كثيراً ممن وردت أسماؤهم في الكتيب.
تحية إكبار لأبي عبد الرحمن بن عقيل في كل تحولاته الفكرية، ودعاء أن يشمل الله برحمته الشيخ وان يمتعه بالصحة والعافية حنبليا كان أم ظاهريا.