محمد عبد الرزاق القشعمي
سمعت بالأستاذ عبدالله بن محمد الغانم وما يتمتع به من صفات رغم فقده لبصره، فهو يحاول أن يقوم ببعض الأعمال التي لا يقوم بها إلا المبصرون، وقد روى عنه بعض من رافقه أنه قد قاد السيارة في أحد شوارع مداخل الرياض، وأنه يلعب الورق معهم وبالذات لعبة (البلوت)، وأنه يتسابق مع غيره من المبصرين، وغير ذلك، وعند تخرجه من كلية الشريعة بالرياض عام 1380هـ 1960م تولى إدارة معهد النور الوحيد في العاصمة وهو المخصص لتعليم المكفوفين وكيف سعى وكافح من أجل تطويره والتوسع في إضافة ما ينقصه من وسائل تعليمية ومرافق عامة، وسعيه لتخصيص قسم خاص بوزارة المعارف باسم التعليم الخاص لذوي الاحتياجات الخاصة، إضافة إلى تطوير مكتبة المعهد بما يحتاجه الطلاب والمدرسون من كتب كتبت بطريقة (برايل) الحرف البارز، وقسم بالوسائل السمعية، وغير ذلك.
وتسنى لي مرافقته في إحدى زياراته للبحرين – صدفة-وعرفت أنه ذهب لحضور أحد الاجتماعات الإقليمية للمكفوفين، فرأيت ولمست منه ما يوحي بوجود صفات وخصائص تفوق ما نلحظه في مثله من المبصرين.
وبعد انتقال عملي إلى مكتبة الملك فهد الوطنية وبداية تنفيذ برنامج تسجيل التاريخ الشفهي للمملكة، حرصت على معرفة عنوانه إذ علمت بتقاعده عن العمل الرسمي، وافتتاحه للأكاديمية الدولية لتدريب المكفوفين من الجنسين، وإدارته لها.
اتصلت به هاتفياً وشرحت له مهمتي فرحب بالفكرة، وتم تحديد موعد زيارة المكتبة وتسجيل المحطات المهمة في حياته -ملخص السيرة الذاتية - وقد تم ذلك صباح يوم 18 - 5 - 1419هـ وعلى مدى ثلاث ساعات روى ما بقي في ذاكرته من مسيرة حياته.
قال إنه ولد في مدينة (جلاجل) في منطقة سدير عام 1352هـ 1932م، وقد بدأ تعليمه فيها بالكتاتيب، إذ لم تفتح المدارس النظامية فيها بعد. وبعد بلوغه الخامسة عشرة من عمره انتقل للرياض ليطلب العلم في حلقات المشايخ في مسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بحي (دخنة) فكان يدرس مع طلبة الشيخ محمد بن إبراهيم كتب الفقه والتوحيد وغيرها، ومع طلبة شقيقه الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم كتب الفرائض والنحو وغيرها.
ومع افتتاح المعاهد العلمية بالرياض التحق بها من عام 1371هـ 1951م وبعد ست سنوات قضاها في مراحل الدراسة بالمعهد انتقل لكلية الشريعة – نواة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- تخرج منها عام 1380هـ 1960م.
وكان أثناء دراسته بالكلية يأخذ دروساً خاصة بالكتابة والقراءة عن طريق الحرف البارز (برايل) على يد أحمد أبا حسين الذي قدم من العراق عام 1377هـ وافتتح مدرسة خاصة للمكفوفين لتدريبهم على طريقة برايل، التحق بالمدرسة ستة طلاب كان الغانم أحدهم، وقد برز ونجح في اجتياز ما قرر عليه، فبدأ اهتمامه وحماسه للتوسع في نشر تعليم هذه الطريقة الجديدة للمكفوفين، فبدأ بتدريسها بالطرق الحديثة للطلاب والطالبات المكفوفين بالرياض، ومد جسور التواصل مع المعاهد والمؤسسات المخصصة لهذه الفئة خارج المملكة، فخاطب مركز الزيتون في القاهرة، والمعهد القومي للمكفوفين بلندن ليحصل منهم على المشورة والإعانة في نشر هذه الرسالة الإنسانية.
وعندما رأى المسؤولون في وزارة المعارف ذلك الحماس لدى الشيخ عبدالله الغانم منح مدرسة جبرة – جنوب حي دخنة- لتعليم المكفوفين في الفترة المسائية.
وفي العام التالي 1380هـ 1960م افتتحت وزارة المعارف معهد النور بشارع الأعشى جنوب الرياض بمنطقة منفوحة. وكلف عبدالله الغانم بادارته، وبعد سنتين ولما حققه المعهد من نجاحات فقد طلب الغانم من الوزارة افتتاح معاهد أخرى في مدن المملكة الرئيسية، وهكذا كان فقد افتتح عام 1382هـ 1962م معاهد نور للمكفوفين في مكة المكرمة ومدينة عنيزة بالقصيم، وبالمدينة المنورة، وفي مدينتي القطيف والأحساء في المنطقة الشرقية.
وفي عام 1389هـ 1969م اجتمعت الجمعية العمومية للمجلس العالمي لشؤون المكفوفين في مدينة دلهي بالهند. والذي قرر إنشاء مكتب للجنة الشرق الأوسط لشؤون المكفوفين وتم انتخاب الشيخ عبدالله الغانم رئيسا له، وأصبح مقره مدينة الرياض، ومن مهمة هذا المكتب دراسة حالة المكفوفين في المنطقة العربية لتوفير وتذليل السبل التي تسهل التحصيل العلمي للكفيف العربي.
وفي عام 1391هـ 1971م عقد الاجتماع الأول للجنة الشرق الأوسط لشؤون المكفوفين بالرياض بحضور دول الخليج ومصر وسوريا ولبنان والأردن وإيران، وصدر بيان ختامي لهذا الاجتماع يضم 61 توصية جميعها تعالج شؤون المكفوفين في الشرق الأوسط، ومنها التوصية بانشاء المكتب الأقليمي للجنة الشرق الأوسط لشؤون المكفوفين فبدأ نشاطه عامه 1973، وكانت من أبرز ثماره افتتاح معهد النور للمكفوفين في البحرين الذي يخدم جميع المكفوفين في دول الخليج العربي، وبعده افتتاح مركز النور للكفيفات في الأردن.
كما تم إصدار مجلة الفجر الشهرية بطريقة برايل العربي، مقروءة ومسموعة مع طباعة وتسجيل أمهات الكتب للمكفوفين، إضافة للمقررات الدراسية وقبل ذلك طباعة القرآن الكريم بطريقة برايل.
هذا وقد طالب الغانم وألح بايجاد برامج تسهل دمج المكفوفين مع أقرانهم المبصرين في التعليم العام بالمملكة، وعلى إنشاء جمعيات خيرية تسهم في خدمة المكفوفين، وقال إنه أول كفيف عربي يقف على منصة الأمم المتحدة لرئاسته الاتحاد العالمي لشؤون المكفوفين.
وهو أول من طالب بقبول الطلبة المكفوفين للدراسة في الجامعات في المملكة، وكذا توظيف المكفوفين في التعليم العام، ومن جهوده المطالبة بتخفيض قيمة تذاكر الطيران والقطار والنقل الجماعي بـ 50 في المائة وإقامة دورات تدريبية لتدريب المكفوفين على العمل بالبدالة (السنترال) حتى يتاح لهم العمل في الوزارات والمؤسسات الأخرى.
• ترجم له في (موسوعة الشخصيات السعودية) لمؤسسة عكاظ للصحافة والنشر، قالت إنه ولد عام 1356هـ. بجلاجل بمنطقة الجوف، وهذا خطأ، إذ إنه ولد عام 1352هـ وجلاجل بمنطقة سدير شمال الرياض وقالت «.. كف بصره وهو صغير فتعلم القراءة على طريقة برايل للمكفوفين، عمل بعد تخرجه مديراً لمعهد النور للمكفوفين 1380هـ - 1960م فمديراً للتعليم الخاص 1392هـ - 1972م كما شغل منصب رئيس المكتب الأقليمي للجنة الشرق الأوسط لشؤون المكفوفين منذ إنشائه 1393هـ 1973م حتى عام 1415هـ 1994م، حيث عاد إلى عمله بوزارة المعارف بعد فترة إعارته للمكتب انتخب رئيساً للاتحاد العربي لرعاية وتأهيل المعاقين 1414هـ 1993م، ونائباً فخرياً لرئيس الوكالة الدولية للوقاية من العمى 1415هـ 1994م. عضو مجلس المستشارين بمنظمة الصحة العالمية، كما سبق له أن رأس الاتحاد الدولي للمكفوفين 1404هـ 1983م لمدة أربع سنوات، اختير عضواً في وفد المملكة للأمم المتحدة برتبة سفير 1990م، منحته الأمم المتحدة شهادة تقدير 1409هـ 1989. وهو عضو دائم للاتحاد العالمي للمكفوفين».
• وفي مقابلة أجراها الصحفي محمد الوعيل مع الغانم في جريدة الجزيرة ضمن زاوية الجمعة الشهيرة (شهود هذا العصر) في عام 1404هـ نقتطف منها شيئاً من ذكرياته مع بدايات تعلمه القراءة بطريقة (بريل) للمكفوفين، أنه كان يقرأ بالكتاب عن طريق اللمس بالمسجد فسأله أحدهم ماذا تقرأ؟ فقلت له بكل براءة: (إنجليزي) فقفز واقفاً وقال: قبحك الله، تقرأ مثل هذا في المسجد. وموقف آخر كان يذهب مع زميل له أعمى إلى أحد الخبازين في حي (المقيبرة) لتناول طعام الفطور، ولاحظا أن الخبز ينتهي بسرعة، ومرة من المرات اكتشف صديقي يداً غريبة فمسكها وقال لي: هل هذه يدك؟ فقلت لا، فاكتشفنا أن شخصاً يأكل معنا يومياً فسألنا الخباز فقال إن هذا الشخص يدخل معكما يومياً وكنت أعتقد أنه جاء ليرشدكما.
• وسأله عن رأيه في التجنيد الاجباري؟ فقال إنه ضرورة حتمية، فهو سيقضى على الفراغ الذي يعاني منه شبابنا الذين سببوا لنا كثيراً من المشكلات الاجتماعية، كما أن التجنيد سيعلمهم الانضباط وتحمل المسؤولية والجدية في العمل.
• وقال إن المرأة بما جبلت عليه من حنو وعطف مؤهلة للعمل مع المكفوفين، ولذلك نجد أن نسبة العاملين في مؤسسات وجمعيات المعوقين في أوروبا وأمريكا من النساء أكبر من الرجال.
• وقال إنه يحمل 20 جواز سفر، وأن أول رحلة رسمية قام بها كانت عام 1382هـ 1962م لحضور المؤتمر الدولي للمكفوفين في هانوفر بألمانيا الغربية، وقال: «وألقيت هناك خطاباً بطريقة برايل وأذكر يومها أنني كنت أقرأ الخطاب تماماً كما يقرأ المبصرون لأنني في تلك الفترة كنت اعتمد اعتماداً كلياً على القراءة والكتابة بطريقة برايل..».
• وقال عن طفولته ومعايشته للفقر «.. نعم تذوقت طعم الفقر، ونشأت فقيراً، فوالدي فلاح يستدين حتى وقت الحصاد ليطعمني مع إخوتي الثمانية، وأنني أفرح بأنني نشأت فقيراً وتعبت وكافحت حتى وصلت إلى ما وصلت إليه الآن.
• وقال إنني حاولت مع وزارة المعارف من 1378هـ 1958م عندما كان الملك فهد بن عبدالعزيز وزيراً لها، وطالبت بتعليم المكفوفين وتعليمهم القراءة والكتابة بطريقة (برايل) وسمحت لي الوزارة بافتتاح مدرسة مسائية لهذا الغرض وأعارتني مدرسة (جبرة) ومنحتني سبعة آلاف ريال وأشترت لنا كذلك بعض الكتب والمعدات البسيطة.. وقد التحق بمدرستنا هذه حوالي مائة وخمسين طالباً منهم ثلاثون من الأطفال أما الباقون فهم من الطلاب الذين كانوا يدرسون في المعهد العلمي والكليات.
وبعد عامين اقتنعت الوزارة بافتتاح معهد لتدريس المكفوفين بالنهار عام 1380هـ 1960م فاطلق عليه اسم: معهد النور واعتمدت له ميزانية وأذكر مقدارها بالضبط وهو مائتان واثنان وثلاثون ألف ريال،.. وعينت مديراً لهذا المعهد، ثم بدأ تعليم المكفوفين يتوسع في المملكة.
عند مرافقتي له للخروج من المكتبة بعد التسجيل معه مسكت يده لأدله في الممرات وعند الأبواب فأصبح هو الذي يقودني ويسير مسرعاً وكأنه المبصر وأنا الأعمى، فقلت له ما سبق أن سمعته عنه إنه قد قاد السيارة ولعب البلوت فضحك وقال هذه ذكرى عفى عليها الزمن.. وهناك أشياء أهم منها.. ولم يمهلني لسماعها.. بل فتح باب السيارة - التي تنتظره بباب المكتبة- وركب بسرعة وبكل رشاقة وبأفضل من غيره من المبصرين.
هذا وقد توفي رحمه الله يوم الثلاثاء 4 - 9 - 1432هـ 2011م عن عمر يناهز الثمانين وله 7 أبناء وأربع بنات.