توفيت والدته رحمها الله فانفتح له باب الذكرى، فاسترجع كل شيء مر عليه، وكأنها كتاب كان قابعًا في زاوية قصيا من مكتبته فاستدناه وفتحه، لقد رأى كل شيء، وسمعه وشمه وتذوقه... الأحداث والأشخاص، والزمان والمكان، البشر والحجر، البيوت والطرقات والمركبات، والأثاث، وأخذ يلملم ما بقي منها إلى ساعته، يلمع هذه القطعة، وينشر ذلك الثوب، ويشم هذا الخمار، ويضم تلك العباءة إلى صدره، ويعيد مشاهدة المقاطع المسجلة أو استماعها.
وفي صفحات هذا الكتاب تذكر علاقات حميمة، كانت تمده وقت طفولته بالحنان والحب، لقد عاش الحب أوان طفولته بكل معانيه، من والديه وجدته لأمه وجده لأبيه، ومن نساء أخريات، منهن هذه التي نقشت حبها في صفحة حياته.
ابنة عم أمه، وزوجة خاله المتوفى، حصة بنت محمد بن علي الزامل (1338- 1414هـ) امرأة من حديد تحملاً لصروف الدهر، وقلب من ورق، يحمل الحب كله، والحنان والعطف، ولسان يقطر عسلاً مصفى، لم يخلط بتشويه التكلف، وثقل التصنع، وبرودة المجاملة.
لم ترزق بذرية، وعاشت شطرًا من عمرها مع أمها وحدهما، يؤنسهما جوار بيت عمها، والعلاقات الطيبة التي تضيء بيتهما الطيني بالزيارة والبهجة.
كانت زيارة الطفل لأخواله محببة جدًّا، ليتسلل أول ما يصل إلى بيتها، فيلعب بما أعدته له من الألعاب، ويمرح معها بما تمطره به من الابتسامات والدعابات، وربما حلت محل والدته في خدمته، ولم يكن أحد حل محل أمه في ذلك غيرها.
لم يبقَ من ذكريات طفولته المادية، غير صور قليلة، صُوَّر فيها عَرَضًا، وغير شريط صوتي، سجلته له، وكانت تحاوره وتستملح حديثه ولكنته، قبل أن يجاوز سنواته الثلاث، فكان الأثر الوحيد الباقي لتلك المرحلة بفضلها وحبها وفطنتها.
وعى الطفل الدنيا وهو يلقبها بلقب رضيته، ولا يدري ما سببه، حتى إذا كبر قليلاً، وبدأ يسمع الناس يسألونها: لماذا يلقبك بهذا اللقب، قصت عليهم قصته، وكان من خبره أنه كان ربما آذى الناس بصوتٍ أو نحوه، فانفردت به، وعقدت معه جلسة حوارية، بينت له فيها صور الالتزام بالأدب، والاتصاف بالسمت، حتى إن ألجأته الطبيعة إلى شيء من ذلك فليهذبه ما استطاع، فإن ألجأه العطاس إلى رفع الصوت فليكتمه إلى أن يقول: أدِّس أدِّس!
لقد استفاد من ذلك الحوار، والتزم ذلك الأدب، وخرج منه بأن لقبها (أدِّس)!
كانت قليلة ذات اليد، فلا مصدر يمدها إلا أن الحب يحقق المحال، فكانت يدها ندية بالعطاء، تمد الطفل بالهدايا واللعب، ومهما كان ثمنها فإن لها مع الحب وقعًا، وكانت تهديه سرًّا لئلا يُعلم عنها فتلام، فإنها تجود مع العسر لا من اليسر.
لا ينسى الطفل استبشارها إذا زارها مع أمه، ولا اجتهادها في إسعاده، في اختيار الطعام الذي يحبه، وتهيئة الألعاب التي يلعب بها، والأشياء الصغيرة التي يهواها، أما ما يقع عليه بصره من أثاثها فيعجبه، فتسارع إلى تجهيزه وتغليفه ليأخذه معه!
ومن نتيجة هذا أن بادلها حبًّا بحب، فكان يفرح إذا فرحت، ويحزن إذا حزنت، ولا ينسى دمعة ذرفتها عينها أمامه ذات مساء، في ليلة من ليالي الخريف، عام 1407هـ، لما جاءها اتصال قُبيل المغرب من أحدهم يطلب أوراقًا رسمية لأحد أولياء أمرها الذين قضوا، فضاقت حيلتها، وجعلت تفرك يدًا بيد، وكأن ذاكرتها تستعرض أهلها الغابرين، وفقدهم المر (توفي والدها عام 1363، وزوجها في حادث طيران عام 1367، وزوجها الثاني عام 1391ه، وأخوها الوحيد في حادث أليم عام 1396ه)، وقالت من أين لي بولي أمر... ثم بكت بكاءً تحاول إخفاءه فلم تستطع! كانت لحظة مرة، ودمعة حارَّة، وموقفًا استعصى على النسيان.
شب الطفل وهو يعنى بأمرها، وينتظر اليوم الذي يكون فيه سببًا لإسعادها، ولما اقتضى تغير الأحوال، واختلاف الزمان، انتقالها من بيتها التي هي فيه، إلى بيت آخر، حرَص الفتى وهو ابن الثالثة عشرة أن يبحث لها عن بيت قريب من بيتهم، ليتردد عليها، أو يقضي لها حاجة، فكان يمشي على قدميه باحثًا عن بيت معروض للبيع، ولكنَّه علم أن رغبتها أن يكون البيت في مكان آخر، قريب من أقرباء آخرين، أكبر منه سنًّا وأقدر على المساعدة والعون... هناك تمنى أن لو كان هو الأكبر الأقدر، ليرد شيئًا من معروفها، وليروي الحب والفضل الذي يسري في دمه.
لقد بلغ الفتى الحلم، ولما لم تكن من محارمه كان لا بد من أن تحتجب منه، غير أن هذا لم يكن، فترخصت برخصة القواعد، وظلت تكشف وجهها، ويجلس إليها مع والدته، فيزورانها ظهرًا، وهو وقت لا يزورها فيه غيرهما، حتى لا يكدر الجلسة مكدر من الزائرات.
وكانت معاناتها من مرض القلب فصلاً من فصول معاناتها المتعددة، فكان يعتادها ما يدخلها المستشفى، وينومها فيه أيامًا، حينًا في عنيزة وأحيانًا في الرياض، وفي أول أيام ذي الحجة عام 1413ه زارها الفتى مودعًا لها، لعزمه على الحج ذلك العام، وما عاد من الحج إلا وقد اشتد عليها المرض، وسافرت إلى الرياض، وبقيت هناك عدة أشهر، عند أبناء أختها المتوفاة وبناتها، فلما أبلَّت قليلاً، عادت إلى عنيزة في زيارة قصيرة، زارها الفتى، ففاجأته أن احتجبت منه يومئذ حجابًا شفيفًا، وكأنها تعلم أنه اللقاء الأخير.. عادت إلى الرياض، وبقي مشغولاً باله، يسأل عن صحتها، فلا يعود من المدرسة إلا بادر أمه بالسؤال عن الأخبار، يجمل وهو يريد التفصيل، ويكني وهو يخشى من التصريح، كان يتوقع كل يوم خبرًا غير سار، وفي يوم الأربعاء 12 من جمادى الآخرة عام 1414ه سافر مع زملائه في رحلة مدرسية إلى المدينة المنورة، ولما اتصل بوالدته صباح الخميس سمع ما كان يخشى، وأخبرته أمُّه بوفاتها.. إنها دمعة حرَّى ذرفها على سماعة هاتف (العملة) يومذاك... وشريط استعرض، وحب استنهض، ولا حيلة له في إدراك الصلاة عليها، ولا شهود جنازتها، ولا الاعتزال عن رفقائه ليذرف الدموع، ويسكب العبرات، فلا خصوصية في تلك الرحلات، فكان يكتم نشيجه، ويواري دموعه، ويتنحى عنهم ما استطاع التنحي، ولكن اكتشاف أمره كان أسهل وأسرع.
دعا الله لها، وما زال يدعو، وما زالت بعض هداياها حتى ساعته هذه، شاهدة على حبها، وداعية له للوفاء لها، بالدعاء المتواصل، والبر الذي لا ينقطع.
لم يكن لها أولاد يرد لهم شيئًا من معروفها، ويرى في وجوههم وجهها وبسمتها، ويستحضر عند حديثهم حديثها وأيامه معها، ويذكرهم بمعروفها عليه فيشكرهم شكرًا لها، أقرب أقربائها أبناء أختها وبناتها، فإذا سمح الزمان بفرصة للقاء بهم، أو بأبنائهم تذكرها، وأقبل يسلم عليهم سلامًا حارًّا ويعانقهم، وبعضهم، وخاصة الصغار منهم، لا يعرفونه، وربما استغربوا حفاوته بالسلام، ولم يدروا أنّه يرى ما لا يرون، ويشعر بما لم يشعروا به!
** **
أ.د. فريد بن عبد العزيز الزامل السليم - أستاذ النحو والصرف - جامعة القصيم