سافرت قريباً جداً هذه المرة وأقرب من المتخيل، ولأنه لا مطارات بين الأرض والسموات ولا فضاءات تحتضن الطائرات فقد سافرت إلى الداخل, داخل نفسي، وهي ليست المرة الأولى ولكنها الأخيرة والوحيدة بصدق, وحقيقة منذ زمن بعيد لم أفعل.
لم أستعد كثيراً لهذه الرحلة ولم أحمل الكثير معي ولم أكن أعرف (حتى مضيت) أنه ما من شيء أبعد من الروح.
لم تكن المسافات هي وحدها التي أفزعتني, الطريق تغير كثيراً وهناك مناطق كثيرة نائية ومهجورة لم أرها منذ أزمنة بعيدة، ومساحات أخرى نبتت وكبرت وتوسعت في غيابي وما من شيء ظالم كالغياب.
واكتشفت ويا للندامة أني كنت مٌظلاً وغافلاً عما كان يتشكل هناك، كنت أحسبني أعرفني لكني الآن وقد عدت من هناك عرفت أني كنت حارس العدم.
منذ الخطوة الأولى شعرت أني بحاجة الى دليل، والأماكن التي طرقتها لم تعد تعرفني ولا تفهمني ولا حتى ترحب بي.. كنت غريباً
كانت المحطة الأولى على يمين الطريق غرفة مظلمة جداً، هذه الغرفة السوداء لا أعرف متى نبتت، وكيف تشكلت، غرفة سوداء تفتح من الداخل وبالتالي كان علي أن أطرق كثيراً وانتظر حتى تُتفتح، ولم يسأل ساكنوها من أنا لكنهم وبدون حديث فُتحوا لي ومضى كلا نحو سبيله وكان علي وقد أصبحت متروكاً تدبر أمري هناك.
وفي هذه الغرفة وجدت كل الأشياء التي كنت قد تجاهلتها أو تجاوزتها أو أجلتها، كنت أحسبني وأنا أفعل ذلك أني أتخلص منها، لكنها كانت كلها هناك وبقوائم مطالبات باهظة والكثير الكثير من العتب.
وحاولت التبرير والاعتذار والتأجيل مرة أخرى، لكنها هذه المرة (الغرفة) لم تكن لتقبل مني وكان علي أن أجد مخرجاً من هذه الورطة وترك ضمانات للعودة ولم أعد امتلك الكثير من اليقين وقبلت هي على مضض أن أترك لديها جزءًا من العمر كرهن, ولأنها تعرف أن ما بقي من العمر غير ذي جدوى وهو قليل على كل حال.
ومضيت قليلاً نحو الداخل إلى الأمام إلى المنتصف ونحو القلب وكان كما هو لم يتغير كثيراً رغم كل الضربات والخوازيق،
لكنه كان هذه المرة فارغاً خالياً وخلياً ومتحرراً من كل شيء.
كان هناك الكثير من الأوسمة والنياشين معلقة على جدرانه دلائل على الانتصارات وكانت هناك ثقوب وندوب وتصدعات لا حصر لها كرايات هزائم، وهذه التصدعات والندوب هي ما جعلته ينجو بالباقي القليل منه لأنه لم يعد فيه مطمع لأحد ولأن تكلفة الإصلاح ستتجاوز كل قيمة مستحقة.
تحدثنا قليلاً وحاولنا التسامح وطلب المغفرة من بعضنا وكلانا مذنب في حق الآخر، ووجدنا أنه لا لزوم لذلك ولأن ما كان مكتوباً على الجبين ما كانت لتخطأه العين.
ومن هناك مضيت جنوباً ووجدت غرفة مقفلة طرقت كثيراً لكنها لم تفتح وتركتها على أن أعود لها وعرفت أنها محتلة بوضع اليد وأنها لم تعد لي وقلت لا مشكلة، وما من شيء يستحق ولن تكون أول التنازلات ولا آخرها وتجاوزتها غير نادم وتوغلت أكثر, وطرقت باباً على اليسار، وبعد صرير طويل ومزعج فتح ذلك الباب ووجدتني وجهاً لوجه أمام نفسي، ولم يكن بداً من التراجع ثم الهروب متخلياً عن كل شيء وهربت.
** **
- عمرو العامري