وفق ما ذكره الفيلسوف اليوناني ديموقريطوس وعلى حد تعبيره من أن الفن الحقيقي عادة ما يكون جميلا خاصة ومنبعه الأرض وتأييد الفيلسوف الكبير سقراط لهذا الرأي وللجمال كقيمة ودلالة في (الاستاطيقا) علم الجمال، وما أثرى النظرية الجمالية في بداية الطريق من خلال المقاييس والمعايير الحسية والسمعية والبصرية بل ولفت الأنظار إليها على اعتبار أن الجمال يرى ويسمع وهو الغاية البديهية المتجددة، واتصاله وبشكل وثيق بالفنون على اختلاف مشاربها ومساراتها المختلفة كالموسيقى والمسرح والتصوير والنحت والرسم والرقص، وكذلك في العادات والتقاليد الشعبية وتحديدا في الفلكلور إذ ترى الجماليات هذا النشاط الحركي والأدائي الفرائحي ينسال في صورتين جميلتين تتفقان على ضرورة اعتبارهما فن روح الشعب المدون للحظاته ولأعراقه وأعرافه البشرية ولأغانيه وخرافاته وطقوسه وأساطيره أيضا،وهو الواضح تماما في عيون المتتبع للفنون الشعبية في المملكة العربية السعودية والدور المتوقع منها في تكريس الوعي الثقافي القادر على تشكيل الصيغة التي تعبر عن الأصالة والهوية والعمق القيمي السعودي المتغلغل في جذوة الأرض وما يبدو لنا جليا في التعالق بين الفلكلور والدراما من خلال الفرجة المرتبطة بالفنون الشعبية وصلتهما وبشكل كبير جدا حتى أن الراصد لها لا يمكن له أن يجد حالة انفكاك بل إن الاتصال وثيق ومباشر وسببي ولا تنفصم عراه إطلاقا والعلاقة هنا غائرة الجذور في الوعي الجمالي والمكاني، ولهذا فالفلكلور الشعبي لدينا بشكل عام لا يحتاج لتعقيد كبير في إخراجه وتقديمه لاتصاله بالناس في حياتها بشكل كبير، الفلكلور لدينا يملأ خشبة المسرح المفتوح والفضاء الخارجي وفي كل مكان، وبالعودة إلى استلهام الحالة الفرجوية للفلكلور الشعبي السعودي بوصفه كاشفا حقيقيا للمظهر الدرامي من جهة ويعطي البعد الدلالي والفكري الجمالي الشفاف والصادق من جهة أخرى من خلال الأشكال التعبيرية الما قبل مسرحية ذات التمظهرالمسرحي وهي مزية تتسم بها جغرافية وطبوغرافية المملكة في اختلاف تضاريسها ما بين الجبال والسهول والقرى والأودية وحتى الصحراء والسواحل، وهذا تنوع يضفي قيمة سلوكية فيما بين التأثير والتأثر من خلال تشكيلة كبيرة ومتنوعة من العادات والتقاليد الثقافية والطقوس والممارسات المرتبطة بالفنون الشعبية في بعدها وعمقها الزماني والمكاني وتضاريسها الفنية لهذه المجتمعات المترامية الأطراالتي تعتمد كثيرا على اللهو والتسلية والغناء وتشبع في ذاتها الحاجة إلى إقامة أواصر عميقة من الصلات المباشرة بالطبيعة وعناصرها التي تتحكم وتتكيف معها يقول مؤسس ومنظر المسرح الاحتفالي عبدالكريم برشيد (أن الحفر في الثقافة العربية للبحث عن الأشكال التراثية لتوظيفها في المسرح: يكون من التاريخ والحكاية والأغنية الشعبية والأمثال والحكم والعمران والأزياء والوشم والرسوم والحناء والحلي والأساطير والألعاب والاحتفالات والأعياد ولا تكتسب قيمتها النهائية إلا بما يمكن أن تصير إليه إنها مانراه ونحسه ونلمسه، وبذلك فإنها تختزن داخلها قابلية التشكل والتحول والتغيير لتصبح شيئا يشبهنا ويشبه قضايانا وإحساساتنا الجماعية والفردية) وبالتالي لا أظن أن هناك أي بقعة في المملكة لم يقبض أفرادها على الفنون في شتى مجالاتها، ونتيجة لذلكم تبرز لنا العديد من المضامين الثقافية والفكرية والاجتماعية الموصلة لحالة الإمتاع والإقناع والإبداع، وتتوالد في ذلك الحاجة إلى إعادة قراءة العديد من الفنون الشعبية والممارسات والتقاليد والطقوس المتناثرة وتفكيكها ومن ثم إعادة بنائها وتركيبها وتأثيثها من جديد وفق طرائق ومختبرات عصرية مبتكرة تصمم خصيصا لهذه الحالة ومحافظة على الثيمة الرئيسة لها بعيدا عن التهريج والإسفاف والبهرجة الزائدة والفرجة المؤقتة، مستندة على الخطاب الثقافي الأصيل الذي يحمل هم الأرض والإنسان والذهاب به في آفاق عالية والوصول بها إلى المتلقي في اللحظة المغايرة والآنية ومغادرتها هنا للحاضر، والموقف لا يعني انفصالها عن جذورها وتاريخها وشكلها وجوهرها بل يتحدد وفق العلاقة ومستواها مع الصيغة المقدمة للهوية والتوظيف الانثروبولوجي الذي يقترح الارتباط الوشيج بالعادات والتقاليد والتطور الملموس لهذه الصيغ الشكلية الدرامية استنادا لعناصر الموروث الشعبي وبما يتطلبه الوقت المعاش وفق الكائن والممكن الذي تتميز به الحالة كطقس الزار وما يرافق ذلك من حالات التعبير الرمزي المرافق في البحث عن الشفاء وتفريغ الطاقة السلبية كما يعتقدها الممارسون لها إضافة لرقصات وتمظهرات أثيرة للغة الجسد ذات إيقاع عال كالعرضة السعودية الموغلة في عمق الأرض ونسيجه الغاير والمتمدد رقصة الحرب والفرح والانتصار في قيمتها المعنوية وتفسيرها الافتراضي، ورقصة السيف والدمة والقزوعي والمجرور والربابة والقلطة والمزمار والليوة والرفيحي والينبعاوي والسف والعزاوي والخبيتي والمسحباني والدحة والسامري والتفاف السًمار حوله ورايح بيشة وغيرها الكثير من أهازيج الحصاد والزراعة، وما تحمله هذه الألوان من مضامين فلسفية قديرة وأهمية استدعائها في مناسبات كثيرة وتصدير مناخ الحالة الطقسية المصاحب لها وهي تمنح المنظر العام حالة عظيمة من الدهشة والإبهار في آن يتخللها بانوراما وطنية مسرحية تعيد إنتاج الفعل الثقافي بصورة ملحمية ساحرة ومتجلية قادرة على صناعة الفرق والتمازج والاستعانة بعناصر ومكملات الفرجة الدرامية التي تؤكد وتقترح شكلا أو نمطا مساعدا وليست بالإجمال هنا كالشاعر والراوي والراقص والعارض وحامل البيرق والنقرزان وأنين النجر والتنكة والبرميل والزلفة والطبل والطار والعصا والبارود والجنبية والسيف والمرد، وفي هذا يرى الدكتور سعد الصويان في حديثه عن مسرحة الفنون الشعبية وخاصة ما يتعلق بشعر القلطة انه يمكن النظر إلى ميدان الرد على أنه حيز زماني ومكاني مقتطع من الحياة الاجتماعية ينشده الناس للاسترخاء والتحلل رافضا نزع هذه الأبيات التي تردد في شعر القلطة من سياق الأداء المسرحي.
وهنا إشارة لأهمية تكريس هذه الفنون وقدرتها على الخلود والتنامي مع متغيرات الزمن خاصة وأن هذه الأفضية المفتوحة هنا وهناك حاضنة ومدهشة في تقديم هذه الألوان دون تمايز بين جنس وآخر مؤمنة بالتشاركية الرافضة لأحادية الحالة الثائرة في وجه القبح والبؤس والإقصاء بدليل مشاركة فاعلة كانت للنساء في الأداء والرقص جنبا إلى جنب مع الرجل شريكة رئيسية في بناء الحضارة والتقدم والجمال معبرة عن ذاتها بالزي والحلي والأداء وصولا لمربع الشراكة الاستراتيجية وفق ثنائية (النقاء والطهارة) والابتعاد عن الهامش والولوج إلى دائرة الضوء والمتن وهذا تأكيد على رفض القطيعة والاتكاء على قانون يضمن ديمومة واستمرارية هذه الفنون واقترابها من فعل التماهي مع ممكنات الدراما وفق محاكاة فطرية عميقة مقاومة للرداءة مؤمنة بالذات الجمعية التثاقفية...!
** **
- أحمد السروي