د.محمد بن عبدالرحمن البشر
منذ عقود ونحن نسمع ونقرأ ونكتب ونتعلم أن الاعتماد على سلعة واحدة في الاقتصاد، مهما علا شأنها وسعرها، ليست كفيلة باستمرار النمو الاقتصادي، أو المحافظة عليه، وتعلمنا أن تنوع المجالات الاقتصادية الجالبة للعملة الصعبة ضرورة لا غنى عنها.
هناك دول كانت ومازالت تعتمد على النفط، وأخرى على الغاز، وهناك دول أفريقية ظلت منذ زمن تعتمد على تصدير سلعة أو سلعتين من المواد الخام، فبعضها يشكل الفوسفات جزءا كبيرا من مصادرها من العملة الصعبة، وأخرى من الكروم، أو الحديد، أو النحاس وغيرها، ومثل تلك الدول موجود في أمريكا اللاتينية، وكان مثلها في الشرق، دولة مثل ماليزيا كان المطاط يشكل مصدراً هاماً لدخلها، وكنا نتعلم ذلك في مناهج الجغرافيا، وحتى الصين التي تلتهم الآن ما لدى العالم من مواد خام، وما زالت تفتح فاها للمزيد، عاش شعبها قبل عقود عيشة الكفاف في ذلك الوقت، وكانت لا تحسن استثمار ما لديها من مواد خام، ناهيك عن جلب المزيد من الخارج، ودولة شرقية أخرى كانت مجرد جزيرة صغيرة مليئة بالغابات، استطاعت من جيل واحد فقط أن تبني بلداً يتفوق على دول العالم في العلم والاقتصاد، وكان الانسان أكبر استثمار تنتج منه منتجات اقتصادية متعددة بهرت العالم، ومثلها دول سبقتها، كان إنتاجها الصناعي رديئاً إلى درجة جعلته مجالاً للتندر، ثم ما لبثت أن قفزت وأصبحت في طليعة دول العالم صناعياً واقتصادياً مع شح المواد الخام لديها.
هناك ممن يؤمن بعامل الجينات، يرى ان دولا متقدمة في الشرق مثل الصين واليابان وكوريا وسنغافورة تعود إلى أصل واحد هاجر بعضها من الصين إلى تلك الدول، وتبقى فيتنام لم تحصل على نصيبها من التقدم الكافي مع أنها من تلك القبائل لكن الظروف لم تحن بعد للحاق بالركب، ومنهم من يقول إنها ثقافة موروثة، وليس جيناً بشرياً، والبعض الآخر يرى أن البيئة هي التي صنعت تلك الدول، وأنها لو توفرت لغيرها لفعلوا فعلهم.
كانت الزراعة هي مصدر اقتصاد الدول وهي أيضاً ما تحتاجه تلك الشعوب في ذلك التاريخ القديم، لهذا فإن الأنهر وضفافها كانت عاملاً جاذباً لاستقرار الإنسان وانتقاله من الغابة أو الكهف إلى الاستقرار، ولاشك ان اكتشاف الزراعة في سوريا قبل عشرة آلاف عام كان عاملاً مهماً لتغير نمط حياة البشر جميعاً للانتقال من الالتقاط والصيد إلى الزراعة والاستقرار.
مع الاستقرار احتاج الناس إلى الأدوات الضرورية للقيام بالزراعة، ومع الأسف للغزو لمن هو ساكن بالجوار.
قبل سبعة آلاف عام أو أقل بدأ الإنسان في استغلال مادة خام جديدة وهي النحاس، واستمر في الاستفادة منها آلاف السنين، حتى اهتدى إلى البرونز قبل أربعة آلاف عام أو أقل من ذلك بثلاثمائة سنة، واستفاد منها في الزراعة وصناعة السلاح، لكنه استمر في استخدام الخزف المصنوع من الطين المحروق لاستخدامه كأوانٍ.
في فترة لاحقة اكتشف الإنسان الحديد قبل ثلاثة آلاف عام ومائتين أو نحوها، وهنا أصبحت المواد الخام ضرورية للاستخدام، ولا ننسى تلك المواد الخام المستخدمة للزينة والحلي مثل الذهب والفضة، التي كانت تتزين به النساء لاسيما في ممالك الفراعنة المصريين الذين كانوا يتمتعون بالمادة الخام من الذهب المستخرج من النوبة بالجنوب، ولهذا سميت بهذا الاسم لأن كلمة الذهب في اللغة المصرية القديمة نب، ثم تطور الاسم لمصر إلى قبط، ثم باللغة الانجليزية ايجيبت، ومصر العظيمة بحضارتها كانت في حاجة إلى المادة الخام من الفضة لافتقارها إليها لهذا فقد كانت سيناء محط عيون حكام مصر فتم لهم ذلك.
استغلال مواد الخام كان جلياً وواضحاً فعله في تفوق شعوب على أخرى، ففي القرن الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد أظهرت الآثار أن دول البلقان قد نجحت في الاستفادة من المواد الخام لديها فتقدمت في التعدين تقدماً كبيراً، واستفادت من المواد الخام في صناعة السلاح المتفوق مثل السيوف الطويلة والتروس، والخوذ والدروع الواقية، وهي السابغات المذكورة في القرآن الكريم، والمستوردة من اليونان او المصنعة في فلسطين لدى الكنعانيين، او شعوب البحر التي قدمت من بحر ايجة، فشعوب البحر أصبحوا الوريث لتلك الصناعة البلقانية، ويبدو ان بلدان تلك الشعوب قد تعرضت لجفاف، وكانت تعتمد على سلعة واحدة غالية الثمن، وهي الزيت، لكنها في حاجة إلى القمح والدهون والنبيذ لتعيش، ولذلك قررت تلك الشعوب الاستفادة من المادة الخام لديها ومهارتها في صناعة السلاح، لغزو دول متحضرة جداً وغنية في مواردها وهي مصر وسوريا وفلسطين والأردن، بالمساعدة مع قبائل البدو مثل اللابو والمشويش الليبية، فكانت نهاية حقبة حضارية وبداية أخرى، ومع كل أسف كان الاعتماد على سلعة واحدة، وهي زيت الزيتون، في دولة قوية عسكرياً، واستيراد الغذاء وغيره سبباً في نهاية حضارات قديمة رائعة بأسرها.