د. عبدالحق عزوزي
تمخض تاريخ العديد من الدول العربية عن ثقافات كانت ثمرة تفاعل متعدد الأطراف والأجناس والمكونات، ولكن المستعمر حاول بكل ما يملك تقويضها، وطمس معالمها، واغتصاب أبجدياتها زرعًا للفتن، ومسحًا للشخصية الثقافية واللغوية، وفرضًا للتبعية عليها، ليس لغويًّا فقط، وإنما سياسيًّا واقتصاديًّا، وفي مجال تكوين النخب. والشواهد على ذلك اليوم وافرة؛ يكفي أن لسان إنجلترا وفرنسا ما زال حتى الآن لسان الإدارة في العديد من البلدان، ولسان التعليم فيها من الطفولة حتى الكهولة، والرأسمال الأمثل لتنمية الموقع الاجتماعي. ولعل دولاً مثل المغرب أكثر من جيرانها في دول المغرب العربي قامت بالتأصيل لقوانين سامية، تسمح بحماية الثوابت اللغوية والثقافية دون إغفال قواعد الانفتاح على العالم؛ لبناء أسرة إنسانية واحدة، وبيت مجتمعي مشترك.
وأيًّا كانت التحاليل التي تتحدث عن العوامل والقابليات الداخلية في التمكين لعمليات الاختراق والتفكيك الخارجي الذي طبخته السياسات الاستعمارية عقب الحرب العالمية الأولى، فلا مناص من الإجماع على الدور الخارجي في إنجاز التقسيم والتجزئة وويلاتها المتعددة، بما في ذلك الاختراق الثقافي. وأصل هذا التفسير مرده طبعًا إلى الهشاشة الداخلية للبنى الاجتماعية، وضعف النسيج الاندماجي في هياكلها، وغيرها من العوامل المتعددة والمتداخلة..
إن الثقافة العربية ما زالت تعيش اليوم مخاض التجاذب بين خيارات متقابلة عدة، وداخل ثنائيات متنازعة، تجعل منها في بعض الأحيان ثقافات تلفيقية، عديمة الوحدة والتناسق، عاجزة عن الحسم في الانتماء لعصرها، مترددة بين تنازع القيم. هذه الثنائيات التي سماها البعض (ازدواجية) حين قال: المشكل الذي يواجهنا وتعانيه ثقافتنا هو مشكل الازدواجية التي تطبع كل مرافق حياتنا المادية والفكرية.. لا، بل المشكلة في الحقيقة هي ازدواجية موقفنا من هذه الازدواجية نفسها.
وفي هذا المنظور لخّص بعضهم أسباب الغزو الثقافي للثقافة العربية في أربعة أسباب، يمكن إجمالها في ما يأتي:
1- واقعنا المجتمعي وما يحمله من تصورات وتوجهات وتراكمات.
2- الغزو الإعلامي السمعي والبصري عبر وسائل الإعلام التي تهدد القيم والأخلاق، وتغزو العاطفة والخيال.
3- قصور العرب في تبني التغيير أدى إلى قصور في الفعل والتخطيط على جميع المستويات العلمية والثقافية والاقتصادية، وغيرها على المستوى الوطني والقومي العربي. وهذا مؤشر إلى عدم فهمنا واستيعابنا لأسس الحضارة المعاصرة وما يجب تبنيه والتخطيط له.
4- إسقاط الحاضر على المستقبل وتقديم حلول غير مستقيمة للحاضر بكل ما يحمله من نقائص وإعادة إنتاج القديم على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والفكري والثقافي، إلى غير ذلك.
ويعلم الجميع أن أهداف الاختراق الثقافي أو الهيمنة الثقافية هي الاستيلاء الثقافي على الطرف الآخر، ونشر ثقافة الطرف المهيمن، وتقويض أسس الثقافات المحلية أو القومية من أجل سيادة نموذج واحد للتفكير، ونشر قيم إنسانية معينة. هذا هو الهدف الظاهر للهيمنة الثقافية، ولكن الهدف العميق للهيمنة هو تعطيل العقول في ثقافة معينة عن الإبداع..
وما زلت أحتفظ بنص رسالة إلكترونية، كان قد أرسلها إلي المرحوم الوزير والمفكر المغربي محمد العربي المساري، تلخص كل الإشكالية التي نتدارسها في هاته المقالة عندما أسرّ إلي فيها بأن الفرنسية كما كانت الإسبانية طيلة مئتَي عام بالنسبة لمعاملاتنا الدبلوماسية والتجارية هي لغة انفتاح وتواصل، ولا يمكن التفريط فيها الآن، وقد أصبحت رأسمالاً ثابتًا للمغاربة رغم أن فرضها كان بفعل حادث سلبي هو الاستعمار. والتاريخ مليء بالأحداث السلبية التي أدت إلى غير ما يسعى إليه مدبروها: «أذكر أنني طلبت من وزير الخارجية في مقابلة اصطحبت فيها المدير السابق للقناة الثانية، وهي بعد من القطاع الخاص، أن تساهم الخارجية في دعم مالي للقناة نظرًا للوقع الذي لبرامجها في إفريقيا الغربية إلى درجة ضايقت القناة الفرنسية كنال بلوس؛ أي إن الفرنسية فرصة لتعاون ثلاثي فرنسي إفريقي مغربي، فضلاً عن كونها لغة انفتاح، ولكن لا يقبل أن تتحول إلى أداة انغلاق كما يريد غلاة التغريب...». ومعنى أن ما يضايقنا وأصبح يمثل مظهر استفزاز ليس هو وجود الفرنسية أو الإنجليزية بل طغيانهما الذي دفع البعض إلى فرض هيمنة احتكارية. وهكذا فإن الزيادة في الشيء نقصان كما قال أسلافنا، وعدم التبصر لدى التمكين للفرنسية أو الإنجليزية على حساب العربية هو الذي أصبح عند البعض مسألة لا تُطاق.