أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
حديث يوم الجمعة المبارك مع مسائل من الرسالة الباهرة للإمام أبي محمد علي بن حزم - رحمه الله تعالى، وستكون متتابعة - إن شاء الله تعالى - في بعض من أحاديث يوم الجمعة:
قال أبو عبدالرحمن: كان كُتيب (الرسالة الباهرة) للإمام ابن حزم الظاهري -رحمه الله تعالى- في الرد على الأقوال الفاسدة، وسأعطي الآن لمحة عن ابن حزم؛ فهو أبو محمد علي بن أبي عمر أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي.. وُلد بقرطبة في سنة (384 هجريًا/ 994 ميلاديًا)، وكان أبوه أبو عمر أحمد بن سعيد من وزراء المنصور محمد بن أبي عامر، ووزر لابنه المظفر بعده.. وابن حزم فارسي الأصل، أول من أسلم من أجداده يزيد، وكان مولى ليزيد بن أبي سفيان بن حرب الأموي، وجده خلف أول من دخل الأندلس من آبائه.. أما ياقوت الحموي فقد ذكر بعد أن تحدَّث عن أصله الفارسي، أن أصل آبائه من قرية (منت ليشم) من عمل (أونبة) من كورة (لبلة) من غرب الأندلس؛ ولقد ولد ابن حزم في القصر، وتربَّى في حشمة وثروة، ونشأ في ترف ورغد، ويذكر ابن حزم أنه بدأ دراسته في صباه مع النساء، يقول: (لقد شاهدت النساء، وعلمت من أسرارهن ما لا يكاد يعلمه غيري؛ لأني ربيت في جحورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن، ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب، وحين بَقَل وجهي، وهن علمنني القرآن، وروينني كثيراً من الأشعار، ودربنني في الخط).. وكان إليه المنتهى في الذكاء، وحدة الذهن، وسعة العلم بالكتاب والسنة والمذاهب والملل والنحل والعربية والآداب والمنطق والشعر، مع الصدق والديانة والحشمة والسودد والرياسة والثروة وكثرة الكتب.. توفي ابن حزم في قريته بعد أن أقصته الملوك وشردوه سنة 456 هجريًا/ 1064 ميلاديًا.. ومن كتبه وتصانيفه العظيمة كتاب (المحلى)؛ وقد ذكر فيه مسائل الظاهرية.. قال ابن بشكوال: ((كان أبو محمد بن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام، وأوسعهم معرفة، مع توسعة في علم اللسان، ووفور حظه من البلاغة والشعر، والمعرفة بالسير والأخبار)).. وألف في علم الحديث والمسندات كثيراً، وألف في فقه الحديث كتاب (الإيصال إلى فهم الخصال الجامعة لجمل شرائع الإسلام في الواجب والحلال والحرام والسنة والإجماع)، وله كتاب (الأحكام لأصول الأحكام)، وكتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل)، وكتاب (أبطال القياس والرأي)، وكتاب (الإجماع ومسائله على أبواب الفقه)، وله غيرها من النفائس.. قال ولده: (إنها نحو أربع مئة مجلد في ثمانين ألف ورقة بخطه).. وكان ورعًا شديد التمسك بالدين، كان أولاً شافعيًا، ثم صار ظاهريًا، إلا أنه أكثر الوقيعة والتشنيع على علماء عصره، انتصارًا لمذهب الظاهية الذي لم يكن مقبولاً لديهم، وكانت فيه حدة، وله لسان ماض، مع وفرة المادة وطغيان العلم؛ فكان ذلك سببًا لنبذ الناس له، واعتزاله في بادية (لبلة) بالأندلس إلى أن توفي؛ وهو القائل مفتخرًا بمذهبه:
ألم تر أني ظاهري وأنني
على ما بدا حتى يقوم دليل
ولعل كتابه في فقه الحديث الذي سماه (الإيصال إلى فهم الخصال) المذكور آنفًا، لو وصل إلينا، لكان الغاية في الإفادة؛ فإن ابن حزم أورد في هذا الكتاب أقوال الصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة المسلمين -رضي الله عنهم أجمعين- في مسائل الفقه، وحجة كل قول.. ووصفه ابن خلكان بأنه كتاب كبير؛ وهذا القول يدل على أن كتابه هذا كان موجودًا في عصر ابن خلكان، وكأنه نظر فيه واستفاد منه.. والعجيب أن أكثر كتبه قد انعدم واحتجب في زوايا الخمول؛ فلم يصل إلينا من مصنفاته إلا نزر يسير، وكل ما بين أيدينا من ذلك نحو من خمسين مؤلفًا ما بين كتاب ورسالة، كما يتضح من الاطلاع على الفهارس والمجلات التي تعنى بنشر النوادر من المخطوطات في العالم.
قال أبو عبدالرحمن: تبدأ فلسفة أبي محمد من أسئلة أولها الكلام عن المجادلة، إذ قال: ((وذلك أنهم إذا اختلفوا في المجادلة، وأجهدوا أنفسهم في المناظرة، قالوا لمن عارضهم: من أجل وأفضل وأورع وأفقه وأعلم؟ مالك، أو أبو حنيفة، أو الشافعي، أو أحمد، أو داوود؟؛ فقام عندهم هذا السؤال الساقط مقام ما لا جواب له ولا اعتراض عليه، وظنوا أنهم ليس هاهنا إلا التسليم لظنهم وغلطهم، والإذعان لسؤالهم الساقط، سالكين في ذلك مسلك الحمية، ولابسين ثوب العصبية، وسائرين بسيرة أهل الجاهلية، من التفاخر والمغالبة، والتنازع والمجاذبة، والميل إلى ما لا يغني من الحق شيئًا، ولا ينيله من حسناته حسنة، ولا يحط عنه من سيئاته سيئة، ولا يرجو منه في غد شفاعة، ومن هو مشغول عنه يوم القيامة بنفسه.. قال أبو محمد: ولهذا السؤال أجوبة نذكرها -إن شاء الله- كل واحد منها كافٍ في بيان هجرية هذا السؤال، ورادع لهم عن العودة له -إن شاء الله؛ فالجواب الأول أن يقال لمن سأل هذا السؤال: أن من جملة سؤالكم عن حكم ألفاظ لا تدرون معناها، ولا تقيمون موضوعها ولا تفهمون حقيقتها، ولا تعلمون ما المراد بها، ولا تعقلون تفسيرها، في أصل كمن يحكم فيما لا يدري ما هو؟، ويقضي بلفظ هو جاهل بمعناه، وكل من رأينا منهم فإنهم لا يدرون معنى قول القائل: فلان أعلم من فلان، ولا ما المراد بقول القائل: فلان أفقه من فلان، ولا ما الغرض من قول القائل: فلان أجل من فلان، ولا ما المقصود من قول القائل: فلان أفضل من فلان؛ فكان الأولى على من سأل هذا السؤال أن يبحث عن معنى هذه الألفاظ، وعن هذه الصفات التي إذا وُجدت في إنسان أتم منها في غيره قضي بأنه أعلم منه وأفقه منه وأجل منه وأفضل منه؛ فلو فعلوا هذا أو عرفوا معاني الألفاظ لكفوا أنفسهم مؤونة هذا السؤال، ولعرفوا من المستوجب للبسوق في التسمية بهذه الأسماء.. والجواب الثاني أن يقال لهم: لا اختلاف بين جميع أهل الأديان عامة، فكيف أهل الإيمان خاصة، في أن الأنبياء عليهم السلام أفضل من مالك وأبي حنيفة والشافعي وأحمد وداوود، وأعلم، وأبجل، وأولى عند الله تعالى وعند الناس بكل فضل وخير، وقد ذكرهم الله تعالى عز وجل فقال: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهوَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ، تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ}..(سورة البقرة (140- 141)؛ فإذا كان الأنبياء عليهم السلام لم نُكلَّف معرفة أعمالهم، ولا حُمِّلنا دراية ما كسبوا، وأخبرنا الله عز وجل أننا لا نُسأل عمَّا كانوا يعملون؛ فحق بلا شك فيمن دونهم أولى بسقوط معرفة أعمالهم ودراية أحوالهم عنا؛ فصح بهذا أن السؤال عمن كان أعلم: مالك، أو أبو حنيفة، أو الشافعي، أو أحمد، أو داوود، فضول من القول، وغث من السؤال، واشتغال بما لا يُغْني، وتهمُّمٌ بما لا فائدة فيه، وهذه حال لا يهتبلُ بها عاقل؛ فإذا كان ذلك كذلك، فلولا ما فشا من ضلالة من ضل بهذا السؤال الفاسد؛ لكان الإعراض عن الكلام فيه واجبًا، والإقبال على سؤال ما يلزم المرء أولى، ولكن فرض النصيحة للمسلمين واجب؛ فلزمنا بيان ما سألوا عنه من ذلك لوجهين: أحدهما تبيين أن هذا السؤال الذي موهوا به، وإنكار هذا المنكر الذي شغبوا به، قال الله تعالى: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أمة يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (سورة آل عمران/ 104).. والوجه الثاني تحذير من عسى أن يجوز عليه هذا الباطل؛ فلعله ينجو من ضلالته وحيرته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة، قيل: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، أو كما قال صلى الله عليه وسلم.
قال أبو عبدالرحمن: في هذا المقدار كفاية إن شاء الله تعالى، وإلى لقاء في الأسبوع القادم بإذن الله تعالى، وعليه الاتكال.
** **
كتبه لكم: أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري (محمد بن عمر بن عبدالرحمن العقيل) - عفا الله عني، وعنهم، وعن جميع إخواني المسلمين -