اللواء الركن م. د. بندر بن عبدالله بن تركي آل سعود
في الجمعة المباركة 27-3-1442هـ، الموافق 13-11-2020م، ودَّعت لؤلؤة الخليج، موطن التاريخ العريق، رئيس وزرائها أخي الشيخ خليفة بن سلمان بن حمد آل خليفة، الذي انتقل إلى جوار ربِّه يوم الأربعاء 25-3-1442هـ، الموافق 11-11-2020م، بمستشفى مايو كلينك بمدينة روشستر بولاية مينيسوتا الأمريكية، عن عمر يناهز الخامسة والثمانين.. وسبحان الله، فقد كان رحيل فقيدنا الكبير في الشهر نفسه الذي ولد فيه، إذ كان مولده في 24-11-1935م؛ وقد قضى نصف قرن تقريباً من عمره المبارك هذا رئيساً لجهاز الدولة التنفيذي الذي يعنى بتسيير شؤونها، ليصبح بهذا صاحب الولاية الأطول لرئيس حكومة على مستوى العالم.
والحقيقة، لا أريد هنا أن أحدثكم عن مولده ونشأته وتعليمه في كنف والده الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة، برفقة شقيقه الأكبر الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، أمير البحرين السابق عليهم رحمة الله جميعاً ورضوانه؛ بل سأكتفي بلمحة سريعة موجزة، أستعرض من خلالها هذا الجهد الهائل المدهش حقاً، الذي بذله الفقيد من أجل تنمية بلاده والنهوض بها، ليصبح أحد أهم رجال الدولة البارزين، الذين حققوا لها كل ما تنعم به اليوم من تنمية واستقرار وازدهار، وما تتمتع به من علاقات دولية واسعة مهمة.
فخلال تلك السنين الطوال التي قضاها فقيدنا في خدمة بلاده، ترأس عشرين وظيفة مهمة في الدولة تقريباً، توزَّعت بين مهمات اجتماعية، تعليمية، مالية، اقتصادية، عسكرية وإدارية. ومعظمها كان يُعْنَى بمجالات توفير الخدمات الضرورية للمواطنين، بداية من معالجة مشكلاتهم الاجتماعية في بداية عمله في الدولة، مروراً بمجلس المعارف، لجنة الكهرباء، لجنة الإيجارات، اللجنة التي كانت تُعْنَى ببحث شؤون موظفي الدولة، رئاسة المالية، رئاسة بلدية المنامة، رئاسة المجلس الإداري، رئاسة مجلس النقد، رئاسة مجلس استئناف قضايا الهجرة والإقامة، رئاسة مجلس الدولة، رئاسة مجلس الدفاع الأعلى، رئاسة المجلس الأعلى للنفط، رئاسة ديوان الخدمة الوطنية فرئاسة مجلس الوزراء التي قضى فيها نصف قرن تقريباً.
وقد أبلى بلاءً حسناً في كل مهمة اضطلع بها، فكان بهذا أحد أركان الدولة المهمة التي أدارت عجلة الاقتصاد والتنمية الشاملة، ورسَّخت قواعد التنمية البشرية والحضرية، خدمة للمواطن وعلواً بشأن الوطن من خلال الارتقاء بمختلف جوانب الحياة في بلاده.
وصحيح، للفقيد أخي الشيخ خليفة بن سلمان بن حمد آل خليفة، رحمه الله وجعل الجنة مثواه، جهد هائل في خدمة بلاده في شتى المجالات، وقد شهد له بهذا كل من عرفه داخل البلاد وخارجها؛ إلا أن أهم ما لفت انتباهي في هذه المسيرة الطويلة الحافلة بالبذل والعطاء اللامحدود ونكران الذات، أمران مهمان، بل غاية في الأهمية:
الأمر الأول:
اهتمامه الشديد بالتعليم منذ بداية عمله في الدولة، وقد عبَّرت عن هذا الأخت الشاعرة فتحية عجلان في رثائها للراحل الكبير، إذ تقول: انطفت شمعة وطن... علَّم الأطفال شيَّد البنيان. ولأنني من قبيلة التعليم بحكم طبيعة عملي سابقاً في الجيش العربي السعودي، أناشد الجميع اليوم، لاسيَّما في خليج الخير هذا، للتفكير خارج الصندوق في موضوع التعليم والتَّعلم هذا، لأنه يشكل القاعدة الأساسية كما يدرك الجميع، للحياة والنجاح. فلنفكر بجد في أهمية الوسائط في التعليم لتوفير بيئة تعليم تتجاوز وسائطها إدماننا المعتاد للصور والأصوات، والاستكانة لأساليب التعليم التقليدية التي عفى عليها الزمن.
والحقيقة، الحديث في هذا الموضوع الحيوي المهم يطول كثيراً، غير أنني أكتفي هنا بتلك النصيحة الذهبية للدكتور (John Medina) صاحب كتاب (Brain Rules)، إذ يقول كلاماً رائعاً عن أهمية توفير بيئة تعليمية جاذبة، تحقق الغرض المنشود من عملية التعليم والتَّعلم: (إن أردتم توفير بيئة تعليمية تتعارض مع الشيء الذي يفلح الدماغ في القيام به بشكل جيد، فعليكم بتصميم شيء شبيه بصف دراسي. وإن أردتم إيجاد بيئة عمل تتعارض مع الشيء الذي يفلح الدماغ في القيام به بشكل جيد، فعليكم بتصميم شيء شبيه بمكتب. أما إن أردتم إحداث تغيير حقيقي، فعليكم بالتخلص من كليهما والبدء من جديد).
فقد تجاوز العالم المتقدم اليوم أساليب التعليم التقليدية، ليوغل بعيداً في تشريح الخارطة الوظيفية الشاملة للدماغ، وأهمية معرفتها لتنشئة الأجيال اللاحقة تنشئة صحيحة سليمة، وتعليمهم حتى يشبوا أذكياء سعداء، فيستمتعوا بحياتهم. والحقيقة، يؤكد هذا مدى ذكاء رؤية سنغافورة التي أسست معهداً عالياً متخصصاً في دراسة كيمياء الدماغ وآلية عمله، يعْنَى بمعرفة قدرات الأطفال الذهنية في سن مبكرة من بداية التعليم الأساسي، ومن ثمَّ توجيههم لدراسة هذه المادة أو تلك حسب استعدادهم الذهني؛ مما جعل سنغافورة تتربع على قائمة دول العالم من حيث جودة التعليم لسنوات متتالية، متقدمة حتى على أمريكا، اليابان وكوريا الجنوبية.
ومن هنا، كان فقيدنا الراحل الكبير محقاً في هذا الاهتمام المشهود بالرقي بتطور التعليم في البلاد، حتى يحقق الغاية المنشودة في امتلاك المعرفة الضرورية لتقدم أي أمَّة في العالم.
الأمر الثاني:
منهجه الإداري: كان له منهج إداري متميز، رسَّخه من خلال ما وهبه الله من حكمة وحنكة ورؤية متقدمة، وتجربة طويلة ثرَّة، خبر فيها مختلف ضروب الحياة، وواجه عقباتها بعقل متفتح وجلد لا يحتمله إلا الرجال الأفذاذ. ولهذا ساعده منهجه هذا كثيراً في تحقيق هذا الإرث الذي خلَّفه لمجتمعه ولبلاده على حد سواء؛ إذ كان مفهوم الإدارة لديه يرتكز على تعريف متقدم من حيث القدرة على التأثير في الآخرين لتحريكهم واستنهاض همتهم وتحفيزهم وتشجيعهم، وبالتالي دفعهم لإنجاز أهداف عامة تحقق المصلحة للجميع؛ بعيداً عن التسلط والأمر والنهي وتصيد الأخطاء. ولهذا أحسب أن كل من يدرك شخصية فقيدنا الغالي، ويعرف حقيقة مفهومه للحياة، لا يندهش كثيراً لهذا الكم الهائل من الإنجازات التي ورَّثها لمواطنيه ولبلاده.
هذا بإيجاز شديد على الصعيد المحلي. أما على صعيد المنطقة، فقد كان أخي الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة، رحمه الله وجعل الجنة مثواه، شديد الحرص على تماسك أبناء الخليج لقناعته التامة بوحدة مصيرهم، وتعدى حرصه هذا إلى العمل بجد من أجل ترسيخ هذا المفهوم، فكان عدَّواً شرساً لإيران التي أصبحت منذ ثورتها المزعومة عام 1979م، مزعزعاً للأمن والاستقرار، ليس في منطقة الخليج فحسب، بل وصلت الفوضى التي أحدثتها في العالم حتى أمريكا اللاتينية؛ والشواهد أكثر من أن تحصى، من العراق إلى سوريا، فلبنان، اليمن وحتى مملكة البحرين هذه التي أفشل رجالها مخططات إيران الخبيثة التي تهدف لإشعال جذوة النعرة المذهبية البغيضة.
وصحيح، كان فقيدنا شديد الاهتمام بوحدة دول الخليج وتماسكها وصمود خيمتها الكبيرة، كاهتمامه بوحدة العرب والمسلمين تماماً في خضم هذا الاضطراب السياسي العالمي الذي لم يستثن دولة كبيرة كانت أو صغيرة، لاسيَّما في ظل هذا الركود الاقتصادي وجائحة كورونا التي كانت بمثابة القشة التي قصمت ظهر البعير؛ إلا أن علاقة الراحل بالسعودية كانت متميزة جداً لما يربط البلدين من صلات وثيقة، ولإدراكه أهمية السعودية الشقيق الأكبر الذي يهتم كثيراً برعاية شؤون العرب والمسلمين حيثما كانوا، مثلما يعْنَى بمواطنيه انطلاقاً من رسالته السامية الخالدة؛ إضافة لاهتمامه بتحقيق الأمن والاستقرار لشعوب العالم على اختلاف مشاربهم. ولهذا كان وزير خارجية أمريكا بومبيو محقاً عندما وصف الراحل في رثائه قائلاً: كان رجل دولة من الطراز الأول.
ولهذا أيضاً فقد استحق الفقيد بجدارة اللقب الذي أضفاه عليه عاهل مملكة البحرين الملك حمد بن عيسى بن سلمان آل خليفة (صاحب السمو الملكي الأمير)، كما منحه أرفع الأوسمة في البلاد، وكرَّمته الدولة فسمّت باسمه موانئ، مدن، جسور، متنزهات، شوارع وجوائز وجَّه الراحل الكبير باستحداثها من أجل تطوير التعليم في البلاد الذي كان يرى فيه فتحاً عظيماً للإنسانية كلها. كما أُلِّفتْ عنه بعض كتب، منها ثلاثة كتب ألفها توفيق الحمد، أذكر منها (خليفة بن سلمان.. رجل وقيام دولة).
فلا غرو إذاً إن أعلنت الدولة الحداد لمدة أسبوع، ونكست الأعلام، وعطلت العمل في الدوائر الحكومية لثلاثة أيام. ولهذا كله وغيره كثير مما لا يسع المجال لذكره هنا، ودَّعه الأشقاء في البحرين بالرضاء بقضاء الله وقدره، والشكر والثناء لله تعالى أن جعل فيهم مثل فقيدهم اليوم، ثم بالدعاء للراحل أن يجعل الله مثواه الفردوس الأعلى من الجنة.
ولا غرو أيضاً أن يرثيه الجميع بكلمات باكية وقصائد تنزف دماً، وأكتفي هنا بالإشارة إلى بعض أبيات مما جاء في قصيدة أخي الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة، ممثل الملك حمد للأعمال الإنسانية وشؤون الشباب، تلك القصيدة الباكية التي توجز كل ما قيل في رثاء الفقيد، إذ يقول سموه الكريم:
وإن حانت الفرقا وصار الذي صار
ما هلت دموع المفارق لغيره
اسمه وذكره تفتخر فيه الاقطار
ومن سيرته يكتب للامجاد سيره
وما نعتبر نفقد رجل، نفقد ديار
نفقد وطن شامخ وشعب وعشيره
هذا خليفة للوطن درع واسوار
هذا سند للدار في كل ديره
افنى حياته للوطن جهد واعمار
بالراي ما بين البصر والبصيره
من جهده ومن نظرته كل الانظار
متوجهة صوب الوطن تستشيره
إلى أن يقول:
مدري، اعزي الدار وإلا هل الدار
وإلا اعزي كل شعب الجزيرة
أما محدثكم، فلا يدري حقاً، كما أكد أخي الشيخ ناصر بن حمد آل خليفة في بكائيته التي أشرت إليها آنفاً:
(إن) كان (يعزي) الدار وإلا هل الدار
وإلا (يعزي) كل شعب الجزيرة
ألا رحم الله أخي الشيخ خليفة بن سلمان بن حمد آل خليفة رحمة واسعة، وأجزل ثوابه، وجعل نزله الفردوس الأعلى من الجنة، وجبر كسرنا جميعاً في مصابنا الجلل هذا. وأصدق آيات التعازي والمواساة لعاهل البحرين الملك حمد بن عيسى بن سلمان بن حمد آل خليفة، ولسمو ولي عهده الأمين الشيخ سلمان بن حمد بن عيسى آل خليفة؛ وللأشقاء في البحرين نساءً ورجالاً وشباباً وأطفالاً؛ و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.