د.فوزية أبو خالد
هناك مشتركات إنسانية عميقة بين الأوطان والشعوب أياً كان موقعها على أرض هذه البسيطة المعقدة ومن أوليات ذلك مشترك التوق للحرية والسلام، للبيئة النظيفة والماء الزلال، للصحة والشفاء، للعدل والكرامة، لمكارم الأخلاق والكلمة الطيبة واللقمة الحلال، للعيش بنعمة التغيير وبنعمة الاستقرار. وفي مواجهة الشدائد كالحروب والأطماع والهيمنة والمجاعات وظروف سياسية بيئية أو صحية عصيبة كظرف جائحة وباء كورونا اليوم يصبح الحفاظ على حد معقول من هذه المشتركات تحدياً عالمياً عاماً.
*****
تابعتُ كما تابع العالم قمة العشرين وكان واضحاً كم الجهد والجود والاجتهاد المبذول في كل صغيرة وكبيرة من تفاصيلها، كما كان واضحا كم الوقت الطويل بما يعادل شهورا من الإعداد مقابل كل لحظة من لحظاتها التي لم تتجاوز ثلاثة أيام من 20-22 نوفمبر 2020 . وبما أن قمة العشرين تعقد لأول مرة في بلد عربي، فقد كانت مسؤولية المملكة العربية السعودية تتجاوز فيها المسؤولية الاقتصادية، المناطة عادة بهذا النوع من اللقاء الدولي الذي هو أقرب في صيغته التنظيمية والاعتبارية إلى منتدى للدول الأغنى عالمياً، لتتحمل فيه المملكة مسؤولية اجتماعية وثقافية لإعطاء وجه حضاري للمنطقة مع التزام موقف يبرز «خصوصية سعودية» لموزييك البعد الاجتماعي والفلكولوري للثقافة العربية من موقع تصحيح التصور النمطي عن السعودية دولة ومجتمعاً من ناحية، وتأكيد الموقع القيادي للمملكة فيها من ناحية أخرى. وقد بدا أن هناك عملاً مضاعفاً للتغلب على الأضرار التي تسببت فيها الجائحة بعدم إعطاء المملكة الفرصة التي كانت تأملها في إطلاع الدول المشاركة ووفودها على مظاهر التغير المتعددة التي شهدتها المملكة وخاصة في التاريخ القريب، بإقامة ترسانة تكنولوجيا فعالة لفتح شرفة وليس نافذة افتراضية للعالم ليرى من خلال شاشات مكبرة المملكة بأزهى صور ممكنة.
وبما أن قمة العشرين التي تمثل الدول الأعضاء في مجموعتها قرابة 80 % من الناتج الاقتصاد العالمي وثلثي سكان العالم وثلاثة أرباع حجم التجارة العالمي يجعلها ذلك النوع من الحدث المتحدث عن نفسه من خلال طبيعته ومن خلال الحشد الإعدادي والإعلامي الذي تعده الدول عادة في مثل هذه المناسبة، فإن مقالي هنا لا مكان له من الإعراب الا في التعبير عن العلم بالشيء مع مقتضى الإقرار بجهد المملكة الكبير في إنجاح لقاء القمة الافتراضي على أرضها في هذا العام العجافي على مستوى الكرة الأرضية.
ولهذا سأقتصر على ذكر نقاط محدودة من متعلقات الحدث.
*****
يجود الخيرون بمالهم
ونحن بمال الخيرين نجود
لعل هذا البيت الشعري يلخص الموقف البالغ السخاء للمملكة العربية السعودية مجتمعاً ودولة تجاه قمة العشرين سواء لجهة تكاليف الإعداد غير المسبوقة لإقامة كامل برنامج القمة إلكترونياً في هذا الظرف التباعدي الاستثنائي لجائحة كوفيد19 أو لجهة المنح الدولية التي شاركت المملكة في بعضها بحصة الأسد لتلافي الآثار الاقتصادية والصحية الفادحة لوباء كورونا، وخاصة في المضائق المالية الخانقة من مجتمعات العالم. مع ملاحظة أن هذا الموقف الكرمي جاء على الرغم من أن المملكة نفسها لم تنج من تكبد الخسارات المؤثرة على دخلها الوطني نتيجة الضائقة المالية العالمية للجائحة، بما ينطبق على الموقف فيه أيضا مقولة يؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. ففي الوقت الذي تتحمل فيه المملكة مع شعبها تبعات مالية باهظة لاحتواء الوباء وآثاره الفادحة من التفشي في بلادها بما في ذلك فرض ضريبة القيمة المضافة وإبطاء بعض المشاريع الحيوية المزمعة، فإنها لا تتوانى عن التعاون بما يتلافى عن العالم توسع الآثار السلبية للجائحة التي كادت أن تصل لحالات إفلاس نقدي بما عبرت عنه كريسالينا جورجيفا مديرة الصندوق الدولي.
*****
تحدث محمد الحواس عن حكاية تصميمه للشعار المتعدد الألوان والهندسات الصغيرة فكان سر الحكاية في الجمع بين بساطة التراث وعمقه وبين تعقيد التكنولوجيا وفعاليتها لإعادة إنتاج ضفيرة السدو الطيفية في صيغة ضوئية عصرية.
*****
تحدثت بعض الفيديوهات التي انتشرت عبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي إبان قمة العشرين بشكل فاره وبصورة حاولت أن تمازج بين المجتمع السعودي والمجتمع العالمي في أبعاد قيمية وثقافية وفي مشاهد معيشية ومواقع جغرافية. بعض هذه الفيديوهات قدم المجتمع السعودي بما لم يخل من نظرة استشراقية على طريقة دعاية أفلام هوليود فلم ينجح في التعبير عن روح المكان ورائحته بقدر ما نجح في تقديم صور مفخمة عن الملبس والمأكل والمعاش السعودي. أما بعضها الآخر فقد أبدع في التعبير عن التقارب الخفي والسافر في العلاقة بين مختلف مكونات المجتمع الإنساني. منها الفيديو الذي أنتجته وزارة النقل في تمثيل مواقف معايشية وإنتاجية بالمجتمع السعودي بشخصيات ولغات عبر العالم، ومنها فيديو أظنه من إنتاج وزارة الثقافة أو أحد ورش العمل لرئاسة قمة العشرين، وتختتم مشاهده الخلابة بكلمة (اغتنام فرص القرن الواحد والعشرين). ومع أنني أظن أن معظم هذه الفيديوهات صناعة شركات عالمية محترفة للصناعة السينمائية الرقمية (إلا لو كان هناك من يفيدنا عن الأمر على وجه الدقة) فإن محتوى الفيديو الأخير المشار إليه هنا قد جاء مشحوناً بجمالية عالية للتفاصيل الثقافية اليومية التي تجمع بين شعوب العالم وليس شعوب العالم الغربي وحسب وبين الشعب السعودي.
وأختم هذا المقال بالتغريدة التي كتبتها عن ذلك الفيديو الأخير.
***
جاء الفيديو معبراً بشكل إبداعي أخاذ عن تقابل وتمازج البلدان والشعوب في تماوج بين الضياء والنور.. والنار والتنور.. والخبز والحنطة والعرق.. والشموع والشهد والدموع.. والأبيض والأسود.. والحليب والحبر.. والملح والجرح.. وأحلام المنام وأحلام الصحو.. والليل والنهار.. والهزيمة والانتصار.. والحنة والوشم.. والنحت والحرية.. والوجع والشفاء.. والجوع والكفاية.. والعطش والماء.. والواقع والخيال.
****
وأخيرًا إن كان من كلمة أخيرة تقال فهناك ثلاث كلمات:
أولاً، إن هذا الحدث قد قام ببناء سريع لبنية تحتية تكنولوجيا متقدمة لم تكن لتبنى في هذا الوقت القياسي لولا هذه المناسبة الدولية في هذا الظرف التباعدي، ولذا فمن المهم المحافظة عليها وصيانتها وتطويرها وإتاحتها وجعلها مكتسباً وطنياً مستداماً قابلاً للصيانة والتطوير والتوظيف في وجوه إيجابية أخرى لا عرضة للإهمال والتهميش بعد انتهاء الغرض الآني منه.
ثانياً، إن مشاركة شريحة عريضة من الشباب في هذا الحدث واحتكاك بعضها مع كبريات بيوت الخبرة العالمية في مجال الإدارة والتشغيل وفي صناعة الشكل والمحتوى والعمل بإشرافها وتوجيهها أحيانا قد شكل ورشة تدريبية وتجربة عملية للشباب يجب أيضا البناء عليها معرفيا ميدانيا لتتسع لعدة أطياف من شريحة الشباب وبهدف الاعتماد على القدرات الذاتية للقوى الاجتماعية مستقبلاً.
ثالثاً، بقدر نشوة وجمال النجاح في تقديم صورة مفعمة بالحيوية عنا في عيون العالم بقدر ما يكون ذلك محفزاً حقيقياً لنا يمنحنا الشجاعة لتقديم صورة مشرفة لنا أمام أعيننا نحن قولا وعملا على مدار العام وعلى مدار عمرنا الوطني المديد بإذن الله.