د. حسن بن فهد الهويمل
يعيب بعض النقاد الغربيين, والمستغربين ضعف (الخيال) عند العرب, الأمر الذي أثار حُراس التراث, وحداهم إلى التصدي للمغرضين, وإثبات النقيض من خلال الكتابات, والمحاضرات, والمؤلفات وإثبات (الخيال) في الشعر العربي القديم, والحديث, والأسطورة, والخيال العلمي. وأخيراً استحضار (رسالة الغفران) (للمعري), لأنها رحلة إلى عوالم الآخرة, والبحث عن الجهنميين, والمنعمين, ومحاورتهم.
لقد قيل إنه استوحاها من رحلة (ابن الشهيد) إلى عالم الجن, وسواء كانت ابتكاراً, أو تقليداً, فقد شكلت منعطفاً مهماً في الأدب العربي, ودعك من الحكايات الخرافية كـ(ألف ليلة وليلة) و(الزير سالم) ومن قبله (كليلة ودمنة) التي جاءت على لسان الحيوانات, لتقويم المعوج عند السلاطين, كلها رسائل رمزية هادفة.
ما يهمني هنا ثورات المبدعين, والمفكرين في عوالم الغيب, وشحن ذلك بأوهامهم, وتخيلاتهم, وشكوكهم, وتساؤلاتهم, وهي ثورات على الواقع, ولكن عجزهم عن التصريح حداهم إلى التلميح.
الثورات أنواع:
- ثورة الأفكار.
- ثورة الرأي العام.
- ثورة العسكر.
وثورة العسكر تراوح بين الانقلابات: الدموية, والبيضاء, وبين الثورة على الظلم.
لا ثورة, ولا انقلاب, ولا مظاهرات في الإسلام. الإسلام امتثال, وعهود, وبيعة, لا ينقضها إلا كفر بواح ببرهان, وهو الأقوى من الدليل.
لقد توفر أدبنا القديم على مغامرات أسطورية. والأسطورة نوع من الخيال, لأنها تعطي الإنسان ما لا يقدر عليه, حتى الكتب التي جاءت في سياق التاريخ الحضاري الإسلامي, لا تخلو من الاهتمام بأسطرة الأشخاص, ككتب الأعلام, والطبقات, والمناقب.
ومن أنكر الخيال في الأدب العربي فَقَدْ المصداقية, ووقع في التعصب, والعصبية المقيتة.
ما يهمنا هنا ثورة قد تكون محظورة دينياً, لأن فيها قولاً في الغيبيات التي لا يعلمها إلا الله, ولكنها مع ذلك تنطوي على معلومات, وفوائد أخلاقية, إنها ثورة مغلفة على الظلم, والجور..
فالشاعر الثائر يرفض واقعه, وينحى باللائمة على تهاون الناس بالقيم, فهو يثور, ويفر من الأخلاقيات المتدنية.
والشعر الجاهلي تناقله أدباء الإسلام, وعولوا على لغته, وقيمه الأخلاقية التي أقرها الإسلام, ولم يمنع المسلمين من حفظه, وتداوله. لأن فيه حفظ اللغة, وأساليب العرب, وفيه قيم أخلاقية, تبناها الإسلام, وهذبها.
ثورة في الحجم للشاعر العراقي (جميل صدقي الزهاوي) طويلة, مضطربة يؤمن حتى اليقين, ويشك حتى الاضطراب. أبدعها فيما أذكر عام 1931م وأحدثت ضجة في مختلف الأوساط الأدبية.
لقد تقصى أحوال الآخرة, وأهوالها, وفصل تفصيلاً مخلاً بمتطلبات الإبداع الشعري, الذي يقوم على اللمحة, والإيجاز, والمجاز, والإيقاع.
هو شاعر كبير, لا تؤثِّر عليه تلك الهناة, و:- (كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه).
وكم نراوح بين ثورة الفكر, وفكر الثورة. ثورة الفكر تختلف عن ثورة الشعوب, وانقلابات العسكر.
لا شك أن الأزمات السياسية, والظلم, والجور يفجّر مواهب الشعراء, بوصفهم صدى للشعوب المقهورة, وحين لا يستطيعون التصريح, يتوسلون بالتلميح.
لقد مهدت الثورة العلمية بتقنيتها الدقيقة لثورة الشعراء, لأنها حاصرت الأنسنة.
(الثورة الفرنسية) بوصفها أم الخبائث, والثورة الشيوعية بوصفها أم الإلحاد, والانفجار العلمي بوصفه الطريق إلى الإيمان, لأنه كشف المخبوء, وعرَّى ضعف المخلوق.
وفوق كل ذلك انفتاح الشاعر, والناقد العربي على آفاق الآداب العالمية, ومستجداتها, ومن يعش من المتابعين, والقلقين فسيرى اختلافاً كثيراً.