د.سالم الكتبي
في إشارة مهمة، أشار كليمان بون وزير الدولة الفرنسي للشؤون الأوروبية أخيراً إلى أن هناك «عقوبات اقتصادية محتملة» من قبل الاتحاد الأوروبي تستهدف قطاعات في تركيا بسبب مواقفها العدائية على حدود أوروبا. ورغم أن الوزير الفرنسي قد أكد أن هذه العقوبات هي «أمر محتمل»، فإن الواقع يقول إنها تأخرت كثيراً سواء بسبب إضرار «السلطان» التركي رجب طيب أردوغان بالأمن الجماعي الأوروبي وتوظيفه المستمر لموضوع اللاجئين السوريين في الضغط على الاتحاد الأوروبي وابتزازه من أجل الحصول على المزيد من الأموال بدعوى منع موجات الهجرة الجماعية للاجئين السوريين من التدفق لشواطئ دول الاتحاد، أو بسبب الاستفزازات المستمرة من جانب تركيا الأردوغانية لبعض دول الاتحاد الأوروبي وفي مقدمتها اليونان.
الاتحاد الأوروبي أدان استفزازات أنقرة ووصفها بالـ«غير مقبولة مطلقاً» في نهاية شهر أكتوبر الماضي، لكن القادة اتفقوا على إرجاء أي قرار بشأن فرض عقوبات على تركيا حتى انعقاد قمة الاتحاد في شهر ديسمبر المقبل، وهذا الإرجاء يوحي بأن ثمة خلافات في وجهات النظر الأوروبية لا تزال تحول دون اتخاذ موقف حازم وصارم ضد الاستفزازات التركية رغم اتفاق الجميع على إدانتها وأن سلوكيات تركيا تتسم بالاستفزاز و«العدوانية الممنهجة» على الحدود الأوروبية، وهذا بحد ذاته موقف لافت لأن الاتحاد الأوروبي تبنى مسبقاً مواقف أكثر صرامة وسرعة تجاه قوى كبرى مثل روسيا، ولكن هذا الأمر مفهوم ومبرر في ضوء حساسية العلاقات مع تركيا، التي تواصل ابتزاز الاتحاد الأوروبي بورقة اللاجئين، فضلاً عن أمور أخرى مثل عضوية حلف الأطلسي وصعوبة فرض عقوبات على دولة شريك بالحلف لما يعنيه ذلك من تبعات قد تفتح الباب أمام سيناريو تفكك الحلف أو على الأقل دخوله في نفق التجميد، علاوة على أن أوروبا تنظر بحساسية خاصة إلى عامل التوقيت والبيئة الإستراتيجية التي تبرز فيها معاناة الاقتصادات جميعها جراء تفشي جائحة «كورونا» بما يجعل من الصعب تبني قرارات سياسية تخص فرض عقوبات أو وقف تعاملات اقتصادية وتجارية وغير ذلك؛ وهذا ما يفسر حرص الوزير الفرنسي على الإشارة إلى أن العقوبات المحتملة على تركيا قد تكون عقوبات فردية أو جزئية تطال بعض القطاعات الاقتصادية التركية، ولكنها لن تطال مسألة إلغاء الاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا.
المعضلة أن «السلطان» أردوغان لا يتلقى إستراتيجية التريث التي تمارسها أوروبا برؤية سياسية واعية، يل ينظر إليها باعتبارها نوعًا من الضعف والتردد ويتمادي في استفزازاته بدليل قيامه بزيارة إلى شمال قبرص الخاضع للسيطرة التركية، عقب صدور بيان التحذير الأوروبي في نهاية الشهر الماضي، والذي وصفه الوزير الفرنسي بأنه كان بمنزلة «فرصة» منحت لتركيا في القمة الأوروبية الأخيرة بعد أن أرسل «السلطان» ما وصف أوروبياً بأنه «دلائل صغيرة» على التهدئة!
الحقيقة أن «السلطان» يتمادي في الإضرار بالمصالح الإستراتيجية الأوروبية منذ انقطاع شعرة الأمل الأخيرة في مسألة عضوية تركيا بالاتحاد الأوروبي، وكانت آخر استفزازاته في هذا الإطار دعوته لمقاطعة المنتجات الفرنسية تركياً وإسلامياً على خلفية أزمة الرسوم المسيئة للرسول (صلى الله عليه وسلم) متقمصاً دوراً شعبوياً دعائياً بعيداً عن دوره كقائد سياسي، ساعياً إلى كسب تعاطف شعبي يتغلب به على تراجع شعبيته داخلياً، ويصرف به الأنظار عن الانهيارات المتلاحقة للعملة التركية (الليرة).
يقول الوزير الفرنسي كليمان بون إن حقيقة أردوغان باتت واضحة لدى الدول الأوروبية كافة، لاسيما بعد تدخله الفج في أزمة «ناجورنو كاراباغ»، داعماً لأذربيجان في مواجهة أرمينيا، وأنه لا توجد أي أوهام لدى أي دولة أوروبية حيال ماهية السيد أردوغان ونظامه»، وهذه نقطة يمكن التيقن منها من خلال نتائج القمة الأوروبية المقبلة.
على أوروبا أن تدرك أن سقوط نظام «السلطان» التركي في مستنقع أزمة اقتصادية مستفحلة سيدفعه إلى مزيد من الاستفزازات والمغامرات خلال الفترة المقبلة ما لم يكن هناك موقف أوروبي صارم لردع هذه الاستفزازات، فالعملة التركية التي تسجل أرقاماً قياسية في الانهيار قد تعجل بمزيد من المغامرات العسكرية التركية رغم أن المنطق يقول إن على «السلطان» وقف تدخلاته العسكرية الخارجية فوراً كسبيل وحيد لإنقاذ اقتصاد بلاده.