سألني أحد الزملاء عن أفضل كتاب يتحدث عن سُبل معالجة المشكلات الاجتماعية والعِلل الأسرية والتربوية يمكن اقتناؤه والاستفادة منه في تقويم السلوك العام وضبط توازنه في البناء الأسري والتربوي والمجتمعي؟ فقلت لصاحبي لن تجد أفضل من المصدر التشريعي الأول (القرآن الكريم)، فالنصوص القرآنية تهدي للتي هي أقوم في جميع مجالات ومناحي الحياة، وفيها تبيانٌ لكل شيء تحتاج إليه البشرية عامة في أمور دينهم ودنياهم، وذلك انطلاقاً من قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ).
نعم، فهو يبّين للناس الحلول الناجعة والأساليب المثالية لعلاج كثير من المشكلات المجتمعية الصالحة لكل زمان ومكان ويوضح أسبابها وطرق معالجتها.. فمن يتدبر في المنهج القرآني الكريم ويتفكر في آياته ويتأمل في نصوصه الربانية سيجد حلاً ناجعاً لكل المشكلات المعاصرة في شتى مجالات الحياة (الاجتماعية والأسرية والاقتصادية والتربوية والفكرية والنفسية والبيئية).
على سبيل المثال، ظاهرة الطلاق في مجتمعنا السعودي تعد من الظواهر الاجتماعية المزعجة التي تشهد ارتفاعاً خطيراً في معدلاتها بصورة تهدد البناء الأسري واستقراره.. بسبب التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، حيث خصص القرآن الكريم سورة كاملة سميت سورة الطلاق ووضع للطلاق قواعد وضوابط وآداب.. تتضمن إذا وصل الزوجان إلى طريق مسدود في حل مشاكلهما، وجب استدعاء حكمين من أهله وأهلها، (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَمًا مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحًا يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا)، لحل الوضع المتأزم بينهما، لعل الله يغيِّر الحال، وتبرز أفكار جديدة من الحكمين لحل الخلافات، والتسلّح بالدعاء فهو دأب النبيين وعدة الصالحين، قبل أن يحصل الطلاق والانفصال، يقول تعالى (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) أي : شرع الله العدة، وحدد الطلاق بها، لحكم عظيمة: فمنها: أنه لعل الله يحدث في قلب المطلق الرحمة والمودة، فيراجع من طلقها، ويستأنف عشرتها، فيتمكن من ذلك مدة العدة، أو لعله يطلقها لسبب منها، فيزول ذلك السبب في مدة العدة، فيراجعها لانتفاء سبب الطلاق.
أما عن المشكلات السلوكية والتربوية فتناولتها سورة الحجرات التي تتضمن حقائق التربية الحديثة وقواعد الآداب الاجتماعية وأسس القيم الأخلاقية حتى سّماها بعض المفسرين «سورة الأخلاق» لاشتمالها على جملة من الآداب، الأدب مع الله سبحانه، والأدب مع رسول الله -عليه الصلاة والسلام- والأدب والتأدب مع عباد الله المؤمنين وغير المؤمنين. وبينّت أن هذه السورة العظيمة بمعانيها الإيمانية وتوجيهاتها التربوية السامية فيها نداءات مباركة نوُدي فيها المؤمنون بأسمى وأطيب وأفضل الأوصاف وأحبها إلى مسامعهم، وأقواها لمشاعرهم واستجابة لقلوبهم (نداءات ربانية).. في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ) نداءات - لا مناص - تصاغ لها الآذان وتتفاعل معها المشاعر الإيمانية وتتحرك معها القلوب وتثير في النفوس والوجدان خواطر عميقة.. فقد تكررت في هذه السورة الجليلة (ستة نداءات) ربانية، منها تلك الإشارات التربوية التي شملت تحذيراً في نقل الأخبار الكاذبة، وبث الشائعات المغرضة التي تزرع الفتن وتنشر مفردات الكراهية والأحقاد بين الناس، وهي تعتبر من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات الإنسانية، ولذلك حذَّر الله سبحانه من ذلك في قوله تعالى: (أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)، ثم انتقلت هذه السورة الجليلة وإشاراتها التربوية الهادفة.. إلى التحذير من الوقوع في مستنقع الاستهزاء والسخرية والتنابز بالألقاب والاحتقار والازدراء الذي يتعرض له كثير من البشر في الحياة الاجتماعية، وهذه العمليات الاجتماعية المدمرة أو المفرقة كما يسميها علماء الاجتماع التربوي من أشد الأمراض الاجتماعية والمثالب النفسية التي تهدد البناء الاجتماعي والأسري وتفّرق بين الناس وتمزق علاقاتهم الاجتماعية، وقد حذَّر - عز وجل - من هذه العمليات الهادمة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)، في حين تضمن النداء الخامس في قوله تعالى: (يَا أَُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ).. تحذيراً ربانياً من ثلاثة أمور مهمة وهي: «سوء الظن وآفة الغيبة وسقم التجسس»، وهذه العمليات الاجتماعية تعد من أشد الأمراض المجتمعية وأخطر المفاسد الخلقية وأكثرها انتشاراً بين الناس في حياتنا المعاصرة، فسوء الظن فيروس يصيب جسد العلاقات الاجتماعية ويفتك بالحياة الأسرية وتضعف بالتالي مناعة المجتمع إذا انتشر هذا الداء داخل النسيج المجتمعي.
وفي جانب تربية الأبناء تبرز سورة لقمان أساليب التربية الحديثة وفق النظريات التربوية، وذلك من واقع مجموعة من الحوارات الراقية بين الآباء والأولاد، وبين الأولاد والآباء، تحمل في طياتها حِكماً عظيمة وأساليب مؤثرة في تربية الأولاد تربية صحيحة متوازنة، يقول تعالى: (وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ) في دلاله واضحة على ضرورة جلوس الأب مع ابنه كثيرا للوعظ والتوجيه والتربية، ولعل قوله تعالى حكاية عن لقمان (.. يا بني) يدل أنه على المربي أن يختار الألفاظ المحببة والمشوقة لدى المتربي، وفي هذا السياق يقول المفسرون إن لفظ يا بني يدل على نداء المحبة والإشفاق، وإن تصغير بُني للتحبب ولبيان زيادة الحب والعطف، وهكذا لو أبحرنا في الإعجاز القرآني وتأملنا آياته ونصوصه الربانية وتعمقنا في بعض السور التي تحث على أسس التربية والقيم الأخلاقية والآداب الاجتماعية الحميدة سنجد حلولاً ناجعة لكثير من الأمراض الاجتماعية والمثالب الأسرية والقضايا الإنسانية، فالقرآن الكريم بمنهجه القويم وضع المبادئ العامة والأسس الكاملة، والضوابط الشاملة للحياة عامة.. وما علينا إلا أن ننظر في حكمة تشريعه وروح حكمته ونقيس ما لا نعلم على ما نعلم.