حمّاد بن حامد السالمي
* ما أكثر البلدان التي تلفظ وتطرد أبناءها؛ حتى يجدوا أنفسهم في بيئات غريبة عنهم، فيعيشوا طوال حياتهم في غربة.
* بلدان القارة الإفريقية هي أكثر بلدان العالم طردًا لأبنائها. يعيش في أميركا وكندا ودول أوروبا الغربية وأستراليا ونيوزيلندا؛ عشرات الملايين من الأفارقة والآسيويين بين مواطن جديد متجنس؛ أو ما يطلقون عليه هناك: (مهاجر غير شرعي). ليس كل من استوطن بلدًا غير بلد مولده كمثل غيره من أبناء موطنه الجديد. هناك عوامل كثيرة تحدد شكل العلاقة بين هذا وذاك، منها ما هو عرقي، وما هو عقائدي وثقافي وتاريخي، إلى غير ذلك. وما يحدث بين وقت وآخر من تصرفات مخلة بأمن وأنظمة البلد المضيف من مستوطن أو مهاجر غير شرعي؛ هي إفرازات طبيعية لهذه التناقضات الحادة، يغذيها ما يطفح على السطح بين وقت وآخر؛ من استفزازات عبر وسائط الإعلام، فتجعل من الحبة قبة كما يقال. ثم سرعان ما تستغلها الجماعات الإرهابية المتطرفة، إخوانية كانت أو داعشية وخلافها، فتزيد الكراهية المتبادلة بين الشعوب الأوروبية والعربية والإسلامية؛ ويصبح العداء سافرًا على أكثر من وجه.
* زار وزير الخارجية الفرنسية مؤخرًا تونس، وكان في صلب محادثاته هناك؛ إعادة عشرات المهاجرين التونسيين غير الشرعيين، الموصوفين بالتطرف إلى بلدهم. كان هذا على خلفية تصريحات الرئيس الفرنسي التي استفزت الكثيرين، وما أعقبها من تفجير وتهديد للأمن. الكلمة التي كانت تتوسل للرئيس ماكرون وتقول له: (دعني دعني)؛ لها جذورها في الثقافة العربية. ليت الرئيس ماكرون رجع إلى سجلات الحكمة العربية قبل أن يقولها؛ ليجد أن ملكًا من ملوك حمير؛ خرج متصيداً ومعه نديم له كان يقرّبه ويكرّمه، فأشرف على صخرة ملساء، ووقف عليها، فقال له النديم: لو أن إنسانًا ذُبح على هذه الصخرة؛ إلى أين كان يبلغ دمه..؟ فقال الملك: اذبحوه عليها؛ ليرى دمه أين يبلغ. فذُبح عليها. فقال الملك: (رُبّ كلمة قالت لصاحبها دعني).
* الكلمة المتوسلة للسان ماكرون؛ فجّرت الكثير من التناقضات، التي تتقاطع في المجتمع الفرنسي وبقية مجتمعات أوروبا وأميركا وكندا وغيرها من المجتمعات، التي كانت تتسامح مع الوافدين، حتى لو كانوا غير شرعيين، فيسكنون، ويأخذون إعانات حتى ينخرطوا في أعمال، ومع الأيام؛ يحصلون على إقامات، وعلى التجنيس فيما بعد. يبدو أن هذه الحالة لن تبقى إلى الأبد، سيأتي اليوم الذي يستيقظ فيه الأوروبيون على وجه خاص؛ ليجدوا أنهم أقليات في بلدانهم، وأن الوافدين من بلدان أفريقية وآسيوية كان الأوربيون يستعمرونها؛ أصبحوا أكثرية، وأنهم ربما خلقوا شكلًا من الاستعمار المضاد في البلدان المصدرة للاستعمار ذات يوم لقارتيهم السوداء والبيضاء.
* قبل خمس سنوات كنت في إندونيسيا، وكنت أرى مجمعات لمهاجرين غير شرعيين، من إيران والعراق وسورية والصومال وغيرها، ونظّم قراصنة بحريون رحلة غير شرعية أخرى لحوالي ألف من هؤلاء إلى أستراليا، وبعد يوم أو يومين؛ غرق المركب الكبير بمن فيه..! كيف غرق..؟ ومن فعل به ما فعل إن صحت روايات التغريق..؟ الله أعلم. ومن زار سواحل تونس والجزائر والمغرب ومثلها ليبيا المحاذية للبحر الأبيض المتوسط؛ سوف يشهد أعدادًا هائلة من الأفارقة تستوطن الجبال، في انتظار قرصان بحري يأخذهم مع كثير من شبان وشابات بلدان شمالي إفريقيا؛ في هجرات غير شرعية إلى إيطاليا وفرنسا وإسبانيا. هذه الحالة قديمة، وهي مستمرة وتتفاقم، وسوف تظل حتى يلتفت العالم إلى البلدان المصدرة لهذه الموجات البشرية، فيسهم في إصلاح تعليمها، وتحسين اقتصاداتها وسياساتها، وإلا فإن أوروبا سوف تتحول ذات يوم - بعُد أم قصُر- إلى إفريقيا جديدة.
* العالم الأوروبي والأميركي الذي يمسك بزمام منظمات حقوق الإنسان - زعم - ووسائل الإعلام؛ ويستخدمها ضد خصومه؛ ويدير دفة هيئة الأمم، وله حضور قوي في مياه ومفاصل الاقتصادات العالمية والطاقة في إفريقيا وآسيا؛ عليه أن يتذكر؛ أنه كان يستعمر هذه البلدان التي هي اليوم فقيرة وفاشلة تعليميًا وسياسيًا واقتصاديًا، وأنه هو من يستثمر ذهبها وفوسفاتها وصيدها وخيراتها، وعليه مسئولية المساعدة في تحقيق تنمية مستدامة، تشجع أبناء هذه البلدان على البقاء في أوطانهم وتعميرها، بدل الهجرة منها والبحث عن أوطان جديدة.
* ما الذي يدفع بعشرات الملايين من أبناء وبنات دول في إفريقيا وآسيا لترك أهليهم وأوطانهم؛ والمخاطرة بحياتهم برًا وبحرًا وجوًا؛ للوصول إلى أميركا وكندا وأستراليا وأوروبا؛ لولا الحروب العبثية، والخوف والجوع، وبؤس الحياة، في أوطان لم تعرف كيف تحكم نفسها، ولا كيف تعلم أبناءها، وتنمي ثرواتها، وتستغل خيراتها.
* إليكم هذه القصة المعبرة؛ التي خلقها خبر لحادث طائرة قادمة من كينيا إلى لندن، فهي تعكس حالة البؤس والشقاء لبشر يبحثون عن مكان يحترم بشريتهم. عُثر قبل سنة ونصف السنة؛ على جثة شخص في حديقة بالعاصمة البريطانية لندن؛ يشتبه في أنه سقط من طائرة قبيل هبوطها في مطار هيثرو القريب. كان الرجل مختبئًا في مستودع عجلات هبوط الطائرة التابعة للخطوط الجوية الكينية. وقال شاهد عيان؛ إن رجلًا سقط على مسافة متر من شخص كان يستلقي للاستمتاع بالشمس في حديقة بمنطقة (كلابام) ظهر الأحد. وأوضح الشاهد - الذي رفض الإفصاح عن اسمه - أنه سمع صوت ارتطام؛ ثم تطلّع من نافذة علوية؛ ليشاهد الجثة والدماء في الحديقة.
* إلى متى..؟ وفي هذا الكون بشر حياتهم كلها بؤس وذل. يهربون من ذلّ بلدانهم إلى ذل بلدان مهاجرهم. لقد صدق أمير الشعراء أحمد شوقي يوم قال:
توهموا العزّ في ذلٍّ يُراد بهم
وشُبّهت لهم النعماء تشبيها
لا عيش في الذلّ إلا للذليل ولا
حياة للنفس إن ماتت أمانيها