عبد العزيز الصقعبي
ربما كان حظه أن يكون حبل غسيل في شرفة بيت قديم مكون من عدة طوابق، هو ليس الوحيد في هذا العالم بل ربما يوجد مثله ملايين في كل بقاع الأرض، إنه حبل ويفتخر كثيراً بهذا المسمى، ولاسيما أنه ورد في القرآن الكريم عدة مرات، واقترن الاسم بلفظ الجلالة، فهل هنالك أكثر من ذلك شرفاً، من جانب آخر تغلغل في جسم الإنسان، فعرف الجميع حبل الوريد، وهذا الاسم وأقصد بذلك الحبل تناقلته أمهات الكتب وذكر في بعض الأحاديث النبوية والأشعار العربية، وبعض أمثال وكلام العرب، الأمر لم يتوقف عند ذلك بل ارتبط بمجالات مختلفة في الحياة، منذ القدم، ويقال إن المصريين القدامى صنعوا الحبال لاستخدامها في جر الأثقال ونصب المسلات وبناء السفن وغيرها، ولا تزال الحبال تستخدم في مجالات الإنشاء والنقل البحري إضافة إلى استخداماته ببعض مجالات الترفيه مثل المسرح والرياضة، وبكل تأكيد نسمع عن رياضات التسلق بالحبال ونط الحبل، القائمة طويلة ورصد ما قيل وكتب عن الحبال يحتاج مدونات، بل إن هنالك عناوين كتب ورد اسم الحبل فيها، ونتذكر رواية حبل الغسيل لعلي أحمد باكثير، والحبل لإسماعيل فهد إسماعيل، وقريباً منا قرأنا أو سمعنا عن كتاب هدى الدغفق «أنشر قلبي على حبل الغسيل»، ولكن لنتجاوز كل ذلك ونركز على حكاية حبل الغسيل في ذلك المبنى الكئيب، البعيدة جداً عن مضمون الكتب والمسلسلات التي تناولت الحبل، بالمناسبة عنوان هذا الزاوية « حبل المودة» مأخوذ من عنوان مسلسل شارك فيه الفنان عبد الحسين عبد الرضا، عموماً حبل الغسيل شاهدت صورته الكئيبة، ثمة تفاصيل أخرى بالصورة سأتطرق لها لاحقاً، ولكن حقيقة استوقفتني الصورة، أتخيل أنها ليست داخل المملكة ولكن تشبه كثير من صور البلكونات أو الشرفات في أقطار العالم بالذات في الدول التي يوجد بها كثافة سكانية، يسكن أغلبهم في شقق صغيرة، بالطبع هنالك مواقع أخرى يوجد بها حبل الغسيل إضافة إلى البلكونة أو الشرفة مثل السطح والفناء، وأحياناً على الجدران مباشرة، ولكن هذه البلكونة، وأفضل استخدام هذه الكلمة لأن كلمة شرفة من وجهة نظر خاصة فيها شيء من الفخامة، والصورة التي رأيتها بعيدة جداً عن الفخامة.
حبل الغسيل في تلك البلكونة، عمره ليس طويلاً، هو جزء من حبل طويل، تم تقسيمه، في يوم ما وكان نصيبه أن يربط بين جدارين بهذه البلكونة، ليستقبل غسيل أسرة فقيرة، ملابس لو سقطت على أرض الشارع ربما لن يحزن أحد على فقدها، إلا إذا كان من فقراء ديستويفسكي، ربما، عموماً هذا الحبل أفضل من كثير مثله، ولنتخيل أن ذلك الحبل، لنتفق أنه ذلك المفتول من ليف طبيعي، لأن الحبال الآن أصبح أغلبها مصنوع من ألياف صناعية، قد تدخل فيها المعادن والبلاستيك، نعود لنتخيل أن ذلك الحبل تم تقسيمه، ليتم استخدامه بسهولة، وهذا الحبل أصبح حظه أن يكون حبل غسيل، حبل آخر استخدم لربط حقائب، حتما أصابه التلف بعد ذلك، إذا حظ هذا الحبل أفضل لأن عمره طويل، وعليه أن يتحمل الشمس والمطر والغبار، وسوء الاستخدام، حبل آخر استخدمه الكشافة فاقترن بكثير من مشاريعهم مثل الخيام والجسور والأبراج، وتفننوا بالعُقد والربطات، عالم تلك الحبال مبهج، ويحتاج إلى مهارات خاصة وأشكال الحبال جميلة، حبل آخر ربط به حيوان، وكما أن الإنسان يستخدم الحبال لكثير من أموره الحياتية، فهو يستعين بالحبل للتعامل مع الحيوانات، هل أواصل سرد أنواع الحبال واستخداماتها، وأنا هنا لا أرغب أن أكتب مقالا عن الحبال، ولكن أتوقف عند ذلك الكائن غير الحي، الذي يدعى حبل، ومهمته كما في الصورة، لنشر الغسيل، حقيقة الصورة لفتت انتباهي، لأن في جانب من الصورة وتحديداً في الركن من البلكونة قرب حبل الغسيل هنالك رجل نحيل يبدو عليه الإعياء لنظراته الشاردة، الصورة دقيقة وواضحة، يلبس فنيلة علاقية بيضاء مائلة للقتامة أبانت نتوء عظامه، هو يهم بفك حبل الغسيل، يتخيله حبل من مسد، وربما هو كذلك لذلك الرجل، الحبل والرجل متجهان لنهاية سيئة، أتخيل ما يدور برأس ذلك الرجل، هو يرى أن ذلك الحبل ليس لنشر الغسيل، ولا لربط شيء بشيء، بل مشنقة، هو رشحه لذلك، ولابد أن يهيئه ليقوم بتلك المهمة، ذلك الرجل التعيس لا يملك مهارات الكشافة لربط الحبال، ولكن ثمة شكل واحد يعرف أنه إذا شكّله سيصبح ذلك الحبل خطيراً، كان من الأولى أن يصبح حبل نجاة، بحيث يقذفه لرجل غريق في مجرى وادٍ أو نهر ليمسك بالحبل وينجو، أو رجل واقع في حفرة أو بئر، ليكون الحبل شعار نجاة، ولكن ذلك الرجل وهو ينظر إلى الحبل، أثناء فكه وأخذه من البلكون إلى مكان مهيأ داخل الشقة التعيسة، توحي ربما لي في هذه اللحظة وأنا أطالع الصورة وأكتب، إنهيمسك بطرف الحبل متجهاً للنهاية المقيتة، ربما هو وحيد، ولو كانت معه امرأة لمنعته من أن يأخذ حبل الغسيل بالذات، لأهميته، ولكن يعرف ذلك الحبل أنه لم يستقبل منذ مدة ليست بالقصيرة أي قطعة ملابس، وكل ما حوله يوحي بالنهاية، لا أحد غير ذلك الرجل في تلك الشقة، هو يعي ذلك، لا أصوات أطفال أو نساء، بل بكاء ونشيج ذلك الرجل، ولا يعي سبب ذلك، ها هو الحبل يشعر بحرارة يدي ذلك الرجل وارتجافهما، هذا ما أتخيله، هل سيودع تلك البلكونة إلى الأبد، هل ستكون نهايته مفجعة وهو يطوق عنق ذلك الرجل، يخنقه، هل ستكون هذه حقاً نهايته بموت الرجل، أو أن ذلك الرجل وجد أن ذلك الحبل مناسب ليتمرن عليه نط الحبل، ويحافظ على صحته، حكاية الحبل لن نجد لها نهاية مطلقاً، لأنه لا يملك قرار نفسه، والصورة ثابتة لا تتغير، لأن من التقطها لم يفكر بمصير كل الكائنات الحية والميتة بها.