تعد الصحافة واحدة من أهم دعائم النهضة الفكرية العربية الحديثة التي انطلقت من مصر وعمَّت كل أرجاء العالم العربي، والمطلع على تاريخ النهضة العربية الحديثة يدرك تمامًا الدور التنويري والتثقيفي الذي أدته الصحافة، ويدرك أنها كانت منبرًا مهمًا وفاعلا ومؤثرا، فعبرها شاعت الثقافة وانتشرت بين كل طبقات المجتمع، وفيها ولدت كل الفنون الأدبية الحديثة: المقالة، والقصة القصيرة، والرواية، وغيرها من الفنون الأدبية التي وجدت في الصحافة حضنًا رحيبًا راعياً، ومساحة حرة، وفرصة سانحة تصلهم بجمهور عريض.
وإذا كان هذا هو دور الصحافة على مستوى العالم العربي في بدايات النهضة الحديثة، فإن دور الصحافة على مستوى المملكة العربية السعودية لم يكن أقل أثرًا أو تأثيرًا في مسيرة الحركة الثقافية والأدبية، ففي أحضانها نشأ الأدب السعودي بكل فنونه، وفي رحابها نما الأدباء وكبروا وأصبحوا أعلامًا لامعين وكتابًا بارزين، ولا يمكن لأي دارس للأدب السعودي الحديث أن يتجاوز أو يتجاهل دور الصحافة في نشأته وتطوره ونضجه.
لقد ولدت الصحافة السعودية في وقت مبكر - قبل توحيد المملكة العربية السعودية تحت هذا الاسم - وكانت الحجاز هي المهد الأول للصحافة السعودية، فجريدة أم القرى صدرت عام 1343هـ/ 1924م، ثم تلتها جريدة (صوت الحجاز) عام 1350هـ، ثم جريدة البلاد السعودية التي كانت امتدادًا لجريدة صوت الحجاز التي توقفت عن الصدور بسبب الحرب العالمية الثانية، ثم مجلة المنهل عام 1355هـ، ثم توالى إنشاء الصحف والمجلات في الحجاز ونجد والشرقية على يد أفراد هم في الحقيقة أدباء مهتمون بالأدب ومحبون للثقافة، وحريصون على نشرها وإشاعتها في المجتمع رغبة في الرقي به وتطويره، وحرصا على مضاهاة الآخـرين في البلدان العربية المجاورة، وإثباتا لحضورهم في ميادين الأدب والثـقافة.
لذلك كانت الصحافة السعودية في بدايتها صحافة أدبية في قيادتها وأسلوبها، وهي المرحلة التي عرفت بمرحلة صحافة الأفراد (1343هـ- 1383هـ) ويكفي أن نطل على بعض أسماء الصحف والمجلات وأسماء أصحابها الذين أنشأوها أو رأسوا تحريرها، لندرك ارتباطها الوثيق بالأدب، فـ(صوت الحجاز) أنشأها (محمد صالح نصيف وعبد الوهاب أشي) و (المنهل) أسسها عبد القدوس الأنصاري، و(المدينة المنورة) أسسها عثمان حافظ ، و(عكاظ) أسسها أحمد عبد الغفور عطار، و(الندوة) رأس تحريرها أحمد السباعي، و(قريش) أسسها أحمد السباعي، و(الرائد) أسسها عبد الفتاح أبو مدين و (اليمامة) أسسها (حمد الجاسر)، و(الجزيرة) أسسها عبدالله بن خميس.
ولذلك لم يكن دور الصحافة السعودية في بداياتها دورًا تثقيفيًا فحسب، بل كان دورًا أدبيًا رياديًا، أسهم في صناعة الأدب السعودي الحديث، وصناعة منتجيه، والترويج له ولهم.
لقد كان الفن الوحيد المعروف والمسيطر - قبل الصحافة - هو الشعر، ولكن مع الصحافة وعبرها ولدت فنون أخرى، وعُرفت وانتشرت مثل المقالة والقصة القصيرة والرواية والمسرحية. حيث فتحت الصحافة أبوابها ونوافذها لهذه الفنون الجديدة، ودعمت وشجعت وقومت حتى أصبح لدينا كتابٌ مشهورون في كل فن.
ثم من الذين كانوا يكتبون في الصحف في تلك المرحلة ؟ إنهم الأدباء أنفسهم وكانوا يكتبون في كل فن، فعبد القدوس الأنصاري على سبيل المثال كتب المقالة والقصة القصيرة والرواية، وكتب في النقد، وأحمد السباعي كتب المقالة والقصة القصيرة والنقد، وحسين سرحان كتب الشعر والقصة القصيرة، وعزيز ضياء كتب المقالة والقصة القصيرة وغيرهم وغيرهم، وكانوا ينتقدون بعضهم، وخاضوا معارك أدبية طاحنة واستكتبوا الكتاب الشباب وشجعوهم، وأطلقوا عليهم الألقاب الكبيرة ليكبروا، ويمكن أن أضرب مثلا بمجلة المنهل وصاحبها عبد القدوس الأنصاري وما فعله مع أدباء جازان الناشئين في تلك المرحلة المبكرة، وهم السنوسي والعقيلي ومحمد زارع عقيل، حيث بدأوا محاولات النشر الأولى عبر مجلة المنهل، فاستقبلهم الأنصاري بالحفاوة والتقدير وأطلق على محمد بن علي السنوسي : شاعر الجنوب، وعلى محمد بن أحمد العقيلي مؤرخ الجنوب، وعلى محمد زارع عقيل رائد القصة في الجنوب، وبتشجيعه أصبحوا من كبار الأدباء في المملكة العربية السعودية والعالم العربي.
وتأكيداً لما قلته عن دور الصحافة السعودية في صناعة الأدب السعودي الحديث، وصناعة منتجيه، سأتوقف قليلاً عند فن القصة القصيرة، الذي لم يكن معروفا قبل الصحافة في السعودية،وكانت ولادة هذا الفن الحديث في أحضان الصحافة، وخصوصا (صوت الحجاز) و(المنهل) و(المدينة المنورة) ففيها ظهرت المحاولات القصصية الأولى، وفيها نشر عزيز ضياء وأحمد السباعي، ومحمد حسين كتبي، وحسين سرحان، ومحمد سعيد العامودي، وحمزة شحاتة. وأحمد رضا حوحو، ومحمد أمين يحيى، ومحمد علي المغربي وغيرهم.
وظلت القصة القصيرة تنشر في الصحف والمجلات – فقط - لفترة طويلة، ولم تظهر أي مجموعة قصصية إلا مع مطلع عام 1366هـ، وهي مجموعة (أريد أن أرى الله) لأحمد عبد الغفور عطار، لكن ذلك لم يلغ دور الصحافة في نشر القصص القصيرة، وتشجيع الكتاب الشباب، ففي المرحلة الثانية من مراحل تطور القصة القصيرة، كانت الصحافة هي المنبر الذي ظهر من خلاله هؤلاء الكتاب، وعبرها تطورت تجربتهم، ونضجت، واستطاعوا بعدها إصدار مجموعاتهم القصصية، ومنهم : إبراهيم الناصر الحميدان، عبد الرحمن الشاعر، وغالب حمزة أبو الفرج، وعبدالله الجفري، وخالد خليفة، وأمين سالم الرويحي، ومحمود عيسى المشهدي، وعبد الرحمن الشاعر، وحمزة بوقري، ومحمد منصور الشقحاء وغيرهم.
وكذلك كان الحال في المرحلة الثالثة وما تلاها، فمحمد حسن علوان، وجار الله الحميد، وحسين علي حسين، وجبير المليحان، ومحمد علي قدس، ومن بعدهم عبده خال، وخالد اليوسف، ويوسف المحيميد، وبدرية البشر، وليلى الأحيدب، وغيرهم وغيرهم من جيل الثمانينات والتسعينات الميلادية، كلهم كانت بداياتهم القصصية وانتشارهم عبر الصحافة.
إن الذين كتبوا في القصة القصيرة في بداياتها مثل الدكتور منصور الحازمي والدكتور سحمي الهاجري يؤكدون أن (صوت الحجاز) و (المنهل) و (المدينة المنورة) من أهم المصادر الحافلة بالنصوص القصصية التي تؤرخ لبدايات هذا الفن في الأدب السعودي.
وبعد هذه الوقفة مع الصحافة السعودية في بداياتها ودورها الريادي في مسيرة الأدب السعودي، سأنتقل في إلماحة سريعة إلى المراحل التالية، فبعد نهاية صحافة الأفراد ونشوء صحافة المؤسسات، تغير الوضع نوعا ما، ولم تعد الصحافة أدبية بحتة، بل أصبحت صحافة متنوعة فيها الجوانب السياسية والاجتماعية والرياضية والثقافية العامة، والأدبية، وتطور وضع الصحف وطريقة إخراجها وتبويبها، خصوصاً بعد عودة المبتعثين، واشتغال المختصين بالصحافة في هذا المجال، وتطور التقنيات والمطابع، وانفتاح المشتغلين بالصحافة على آفاق العالم، ونهلهم من التجارب الجديدة في هذا المجال، حتى أصبحت الصحافة السعودية تتفوق إخراجاً ومادة على كثير من الصحافة العربية، التي سبقتنا تجربة وخبرة بعشرات السنين، ومع ذلك فإن الجانب الأدبي لم يُغفل خلال هذه التجربة الجديدة، ومنذ أواخر السبعينات الميلادية، وخلال الثمانينات والتسعينات الميلادية من القرن العشرين، وخلال الألفية الثالثة، ظلت الصحف محافظة على أبواب أدبية أسبوعية ثابتة، وكذلك المجلات التي تقدم مادة متنوعة مثل الفيصل والمجلة العربية واليمامة وقافلة الزيت وغيرها.
ولعلي أتوقف قليلا عن الثمانينات والتسعينات الميلادية، التي عايشتها شاباً صغيراً محباً للقراءة ومولعًا بالأدب، فوجدت فيها مادة غنية، وثراء لا حدود له، سواء على مستوى الفنون الأدبية - شعراً وقصة ومقالة - أو على مستوى النقد الذي كان مزدهرا وقويا. وهل يمكن أن أنسى الملاحق الأدبية الأسبوعية التي كنت أنتظرها بفارغ الصبر, لأقرأها سطراً سطراً، وصفحةً صفحةً، هل يمكن أن أنسى ثقافة الخميس في جريدة الرياض، أو الملحق الثقافي في صحيفة الجزيرة يوم الخميس الذي تحول إلى مجلة ثقافية ، أو ملحق الأربعاء في صحيفة المدينة الذي كان يتجاوز الثلاثين صفحة، أو ملحق المربد جريدة اليوم، أو ملحق جريدة عكاظ، أو ملحق جريدة الندوة (يوم الأحد) وهل يمكن نسيان المجلة العربية وما تحمله من شعر وقصص ونقد، أو مجلة الفيصل وما تحمله من شعر وقصص، وقصص مترجمة ونقد، أو مجلة التوباد، أو مجلة النص الجديد، أو أذرع الواحات المشمسة، أو قافلة الزيت، أو اليمامة، أو إقرأ، أو الجيل، وهل يمكن نسيان مجلات الأندية الأدبية (الراوي، علامات، جذور، عبقر) الصادرة عن نادي جدة الأدبي و (قوافل، الأدبية) الصادرة عن نادي الرياض الأدبي، ومجلة(بيادر) عن نادي أبها الأدبي, و (مجلة مرافئ) عن نادي جازان الأدبي ومجلة (ود) عن نادي الطائف الأدبي، وغيرها من المجلات الأدبية التي خصصت صفحاتها للأدب والنقد.
وهل يمكن نسيان القامات الأدبية السامقة التي بدأت مشوارها عبر الصحف والمجلات السعودية، وأصبحت معروفة على المستوى المحلي والعربي والعالمي.
إن السؤال الذي طرح في البداية: ما الذي فعلته الصحافة السعودية للأدب والنقد خلال مسيرتها الطويلة؟
يمكن أن يصبح الآن: ما الذي لم تفعله الصحافة السعودية للأدب والنقد في السعودية خلال مسيرتها الحافلة؟
** **
- د . حسن حجاب الحازمي