د. عبدالحق عزوزي
دعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة طويلة أجراها معه موقع «لو غران كونتينان « إلى إعادة النظر في الهيئات الدولية، وإلى تحديثها، معتبرًا أن «مجلس الأمن الدولي لم يعد ينتج حلولاً مفيدة». وأشار ماكرون إلى أنه يجب «أخذ العلم بأن إطارات التعاون متعدد الأطراف باتت اليوم ضعيفة، لأنها معرقلة». وقال بالحرف: «أنا مضطر للتنويه بأن مجلس الأمن الدولي لم يعد ينتج حلولا مفيدة اليوم: نحن جميعا نتحمل مسؤولية مشتركة عندما يصبح البعض رهائن أزمات التعددية، مثل منظمة الصحة العالمية». مضيفا: «يجب أن ننجح في إعادة ابتكار أشكال مفيدة للتعاون وائتلافات للمشاريع وجهات فاعلة وعلينا أن ننجح في تحديث الهياكل وإعادة توازن هذه العلاقات». وباستثناء مؤتمر عبر الفيديو في نيسان/ أبريل، التزم مجلس الأمن، الصمت حيال أزمة كوفيد-19، وهي أسوأ أزمة صحية شهدها العالم منذ الحرب العالمية الثانية.
وفي هذا الاتجاه، اشار الرئيس الفرنسي إلى أن «المسار» الصحيح في الوقت الحالي هو «تعزيز وبناء أوروبا» وأكد أنه «يعارض بشدة» مقالة كتبتها وزيرة الدفاع الألمانية آنيغريت كرامب-كارنباور ونشرها موقع «بوليتيكو يوروب» وجاء فيه أن «أوهام الاستقلال الاستراتيجي الأوروبي يجب أن تنتهي: لن يتمكن الأوروبيون من لعب دور أمريكا الحاسم كمزوّد للأمن».
وتأتي هاته التصريحات موازاة مع قرار السلطات الفرنسية في 29 أكتوبر/ تشرين الأول رفع مستوى الإنذار الإرهابي على أراضيها إلى مستواه الأقصى، إثر تسجيل ثلاث هجمات إرهابية خلال شهر واحد استهدفت مواقع مختلفة؛ إذ أسفر هجوم بالسلاح الأبيض عن سقوط جريحين قرب مقر «شارلي إيبدو» السابق نهاية سبتمبر/ أيلول. وقطع رأس مدرس عرض على تلاميذه الرسوم الكاريكاتورية للنبي محمد صلى الله عليه وسلم في منتصف أكتوبر/ تشرين الأول، وأدى هجوم بسكين على كنيسة في نيس إلى سقوط ثلاثة قتلى. كما حلت منذ أيام الذكرى الخامسة لاعتداءات باريس الدامية، التي قتل فيها أكثر من 130 شخصا، وخلفت صدمة كبرى لدى الرأي العام الفرنسي. ولمواجهة هذه التهديدات الإرهابية على أراضيها، سواء كانت داخلية أو مخططا لها من الخارج، والتي بلغت أقصى مستوياتها، عززت باريس بشريا وتشريعيا آليات التصدي للإرهاب.
وقد يظن البعض أن هناك انطباعاً بأن التهديد أصبح أمراً ثانوياً لا يعتد به في السنوات الأخيرة بسبب ظهور معضلات أخرى مثل السترات الصفراء أو وباء كوفيد 19. لكن الأرقام تظهر للأسف أن التهديد بقي مرتفعا؛ فخلال خمس سنوات، نفذ 20 هجوما داخل الأراضي الفرنسية، كما أحبط 61 هجومًا آخر.
وتشير التقديرات إلى أن مائة إلى مائتي جهادي فرنسي يقيمون بين العراق وسوريا. وهؤلاء جميعهم يملكون السلاح والمال والعتاد؛ ومن الخطأ الاعتقاد أنهم غير قادرين على عبور الحدود سرا للوصول إلى الدولة الفرنسية؛ ولا أدل على ذلك من طريقة وصول الشاب التونسي الذي قام بعملية إجرامية أخيرة في نيس؛ فبحسب المحققين في تونس وصقلية، فإن هذا الشاب التونسي اختفى في 14 سبتمبر/ أيلول ووصل جزيرة لامبيدوسا في 20 سبتمبر/ أيلول على متن قارب صيد صغير بصحبة 20 شاباً تونسياً آخرين وبدون أوراق ثبوتية. وبعد ذلك خضع للاستجواب لدى وصوله إلى إيطاليا ثم خضع لفحص الكورونا قبل أن يتم تصويره وتسجيله من قبل السلطات المختصة. وقضى بعد ذلك 10 أيام في صقلية دون أن تكون تحركاته مراقبة، وربما يكون قد سافر بطريقة غير مشروعة عبر «فنتمغليا» على الحدود مع فرنسا.
وهناك مشكل آخر، له علاقة بملف السجناء المدانين بتهم إرهاب والذين يخرجون من السجن، ويثير هؤلاء الأشخاص قلق الاستخبارات الفرنسية والأوروبية على السواء. وقد تعزز ذلك مع هجوم فيينا الذي نفذه شخص أفرج عنه في نهاية 2019 بعدما أمضى ثمانية أشهر في السجن إثر محاولته التوجه إلى سوريا.
تعاني إذن فرنسا والعديد من الدول الأوروبية من تهديدات خارجية ومن تهديدات داخلية؛ وهذا ما جعل الرئيس الفرنسي في خرجاته الإعلامية الأخيرة يلح على ضرورة إعادة بناء البيت الأوروبي من الناحية الأمنية والاقتصادية والاجتماعية؛ ولا أخال أن ذلك سهل لنوعية النظام العالمي الجديد لما بعد كورونا حيث الطابع الانغلاقي لدوله ستكون هي القاعدة ناهيك عن الاحتكار والصراع الصيني- الأمريكي اللذين لا يبشران بخير.