أ.د.عثمان بن صالح العامر
رغم انتقاد الديمقراطية من قبل أعظم فلاسفة اليونان إلا أن هذا النظام ساد في أثينا اليونانية ردحاً من الزمن، وبسبب أخطاء داخلية وخارجية عديدة سواء على مستوى التنظير أو التطبيق، إضافة إلى أسباب أخرى عالمية امتد أثرها إلى المدنية الأثينية أدت جميعها إلى انتهاء العهد الديمقراطي الأثيني، ومن ثم انزواء هذا المصطلح، وقلة تطبيقاته العالمية بشكل ملفت للنظر، خاصة بعد أن تعرضت تجربة «الديمقراطية الرومانية» للصعوبات نفسها، التي عانت منها التجربة اليونانية فحدَّت هذه الصعوبات في بداية الأمر من انطلاقها، وما لبثت أن أودت بها.
على أثر هذا الإقصاء للنظام الديمقراطي ساد في أوروبا خاصة - ردحاً من الزمن- مبدأ «الثيوقراطية Theocratiques»»، وسبب ذلك سيطرة التحالف الثلاثي «الكنيسة والملكية والإقطاع»، الذي أذاق أوروبا أقسى أنواع الظلم. وشاء الله أن سطعت شمس الإسلام على بلاد الغرب، فأبصر ثلة من المفكرين والفلاسفة الأوروبيين مواطئ أقدامهم في وسط الظلام، وبدأ الكفاح الفكري للتحرر من القهر الكنسي والسياسي مع مطلع القرن السادس عشر الميلادي.
وقد تجسد هذا الجهد في السعي إلى هدم بنيان الأسس التي بنيت عليها تلك المظالم أولاً، ثم البحث عن أسانيد فكرية جديدة تخرجهم من ظلمات الاستبداد إلى نور الحرية. ولعل من أبرز نتاج تلك الفترة نظرية العقد الاجتماعي Social Contrac، التي ظهرت في نهاية القرن السادس عشر الميلادي وبداية القرن السابع عشر الميلادي على يد الفيلسوف «توماس هوبز»، ثم طورها «جون لوك»، وتبلورت في صورتها النهائية على يد الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، في كتابه الذي أصدره سنة 1175هـ (1762م) وسماه «العقد الاجتماعي» وقد حوى هذا الكتاب الذي يعد من أقوى المؤثرات الفكرية على رجال الثورة الفرنسية حتى قيل عنه «إنجيل الثورة الفرنسية» على عدة أفكار سياسية مؤثرة، ودعوة صريحة إلى ضرورة قيام الحكم الديمقراطي المباشر.
وأهم الأسس التي يجب أن يقوم عليها النظام السياسي المثالي -في تصوره- هي:-
(1 - إعطاء السيادة للشعب.
2 - حكم الشعب نفسه بنفسه عن طريق «الإرادة العامة» التي هي مجموع الإرادات الحرة للأفراد المكونين للجماعة.
3 - إخضاع كل من السلطتين التنفيذية والقضائية للسلطة التشريعية، لأن الأخيرة تعد أعلى سلطة في الدولة، حيث السيادة العليا بيدها، وما السلطتان التنفيذية «الحكومية» و»القضائية» إلا أداتان رئيستان لممارسة الإدارة العامة لاختصاصاتها وسيادتها، لذا تخضع هاتان السلطتان للسلطة التشريعية.
4 - صدور القرارات التي تخص المجتمع بالأغلبية، وعلى الجميع الالتزام بما تراه الأغلبية.
5 - «الإرادة العامة» لها استقلاليتها عن إرادة الأفراد، وتتمتع بسيادة مطلقة، ولا تلتزم بأي قيد، ولها حق إصدار ما تراه من تشريعات ونظم، على أن يكون هدفها الرئيس هو حماية الحرية الطبيعية للإنسان). وإلى لقاء في المقال الخامس من هذه السلسلة بإذن الله والسلام.