د. محمد بن إبراهيم الملحم
أشرت مسبقاً إلى حركة القراءة في الغرب والنمط الذي تسير عليه المدارس هناك خاصة في تدريس الأطفال والعناية بالقصص والقراءة كأسلوب نمو تعليمي يمارسه كل من المدرسة والوالدان في المنزل، ومدار الأمر كله على قصص الأطفال في المقام الأول. دعونا نأخذ نظر ة تاريخية مماثلة لدينا، إذ لما دخل التعليم النظامي في البلدان العربية لم تكن هناك «قصص» ضمن المنهج وإنما هي قطع صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع في كتاب «المطالعة»، فنشأ الجيل بنَفَسٍ قصير في المطالعة والقراءة، ولما بحث بعضهم (ممن يملك ما يفيض من المال) عن القصص وجدها في المكتبات التجارية فقط وهي نفسها قصص الطلاب الأمريكان والغرب التي تم تعريبها (مثل قصص المكتبة الخضراء)، وحيث إن تلك الدور التجارية ليس بيدها منتج عربي مقنن فقد لجأت إلى ترجمة ما ساد في أيدي أطفال الغرب لتقدّمه للطفل العربي بما فيه من إغراب عن بيئة الطفل العربي مثل مفردات الغابة، الكوخ، السنجاب. وأكثر قراء اليوم هم زبائن تلك القصص، وما تلاها من سلاسل قصصية إما مترجمة أو تحاكي السلاسل الأجنبية مثل المغامرون الخمسة وغيرها، وما زالت القراءة لدينا تعاني نفس ما تعانيه تقريباً منذ ذلك العهد، بل ربما كان ذلك العهد أفضل لأن القراءة حينها هي المجال الوحيد المتاح للمتعة ولا ينافسها سوى التلفاز الذي كان وقته مقنناً بين السادسة والعاشرة مساء فقط مما يترك للقراءة مساحة أكبر لجذب محبيها (أو لتنشئتهم عليها)، وهذا يعني أن القراءة اليوم ينبغي أن تتموضع أكثر من خلال المدرسة والمنهج والنشاط اللا صفي، إذ ليس لها أمل للنمو في البيت، ليس لأنه لا يتوفر لدى أسرة الطفل إمكانية شراء القصص، وإنما لوجود المشوّشات التي تجذبه بعيداً عن القراءة والاطلاع، بالإضافة إلى أن الوالدين لم تنشأ لديهم عادة القراءة ليقرؤوا للطفل كما هو الحال فيما وصفت سابقاً حول عادة الوالدين في الغرب، ولذلك ينبغي أن تكثّف المدرسة نشاطها في هذا المجال وتزرع العادة لدى الطفل، بل حتى الطلاب الأكبر سناً.
هذا يعيدني مرة أخرى إلى البعد التاريخي، حينما كانت المكتبة المدرسية عامرة بالكتب ومفتوحة على الدوام خاصة في المدارس الثانوية، وهناك أمين مكتبة موجود على الدوام وخصوصاً في الفسحة، ومع أنها لم تكن تتجاوز في مساحتها غرفة الفصل إلا أنها كانت عامرة بالكتب وكانت تمتلئ بالطلاب للمطالعة الحرة أو القراءة المنظمة، ومع وجود فرصة للاستعارة فإن ذلك يشجع الطالب على القراءة لاحقاً في المنزل بسبب محدودية وقت الفسحة وهي الوقت الوحيد المتاح حينها للدخول اليومي للمكتبة بالإضافة إلى الفرص التي يوفرها أستاذ اللغة العربية باقتطاع جزء من حصته أو عندما تكون هنالك حصة فراغ ليتم توجيه الطلبة للمكتبة، ويوازي هذه المكتبة المدرسية مكتبة أخرى هي المكتبة العامة والتي كانت ترعاها وزارة المعارف (وزارة التعليم حالياً) ففي كل مدينة توجد مكتبة عامة أكبر حجماً بكثير من مكتبة المدرسة، ولا تزال هذه المكتبات قائمة حتى اليوم بعد أن انتقل الإشراف عليها إلى وزارة الثقافة، ومع صغر مساحة المدينة في أغلب بقاع المملكة باستثناء المدن الكبرى الثلاث فقد كان الذهاب للمكتبة العامة سيراً على الأقدام ممكناً لكثير من الطلاب وكانت أيضاً تحفل بعدد جيد من الطلاب للقراءة، كل هذه عوامل ساعدت كثيراً من الطلاب على الاستفادة وتكوين شخصيتهم الثقافية وامتلاك عادة القراءة والاطلاع، الأمر الذي يعود على تحسن قدراتهم في التعلّم لكل المواد الأخرى غير اللغة كالعلوم والرياضيات كما يقول البحث العلمي فيما وضحت سالفاً.
أعتقد أن الواقع الحالي يتطلب صيغاً جديدة للتحفيز على القراءة، مع أن لدينا حالياً ما يُسمى «مركز مصادر التعلّم» بديلاً حديثاً للمكتبة التقليدية إلا أن هذه المراكز في المدارس تشكو نقائص متعدِّدة أبرزها الترويج وعمل أنشطة تحفز الطلاب على الاستفادة منها، كما أن المحتوى يحتاج إلى زيادة وتنويع مع إثراء ويحتاج أيضاً إلى تنميط بطريقة ترغّب الطالب في القراءة والاطلاع، مع تقديم مقترحات قرائية تم اختيارها بعناية ورسم خارطة طريق له للقراءة، وكل ذلك أدعو إليه لأن وقتنا الحالي بتسارعه وكثرة المشوِّشات فيه أصبح يدعونا إلى تقديم مسهِّلات ومرغِّبات في ممارسة مهارة تثقيفية ذات معنى فكري وعمق إدراكي مثل القراءة، لا نتوقّع أن يعود التاريخ كما كان، ولا أن تتغيّر تفاعلات الحياة لتساعدنا على السير في الاتجاه الذي نريد كما نريد، وإنما يجب علينا بعد فهم واقعنا أن نعيد صياغة ممارساتنا وطرقنا ومداخلنا لتحقيق أهدافنا بحيث تتماهى مع هذا الواقع وتستجيب لمتغيراته... أتمنى ذلك.