د. محمد بن يحيى الفال
تسلمت المملكة العربية السعودية رئاسة مجموعة العشرين في ظروف استثنائية، لم يشهد العالم مثيلاً لها، تتمثل في انتشار جائحة فيروس كورنا المستجد في كل قارات العالم، ولم تبقَ دولة إلا وتأثرت بتبعات الجائحة، وما خلفته من تحديات غير مسبوقة، واجهتها الدول كافة، المتقدم منها والنامي، والغني منها والفقير، وذلك على حد سواء. ومع هذا التحدي غير المسبوق في العصر الحديث تمايزت ردود الأفعال لمواجهة هذه الجائحة بين مختلف دول العالم التي أخذتها الجائحة على حين غرة؛ وهو ما خلق ارتباكًا وفوضى، عمت أرجاء المعمورة في البحث عن الكيفية الملائمة لمواجهة الخطر المحدق بالبشرية جمعاء.
شاهد العالم هذا الارتباك من خلال التصريحات المتعلقة بخصوصها من مسؤولين ومختصين من كل مناطق العالم، ولم يسلم من ذلك حتى المنظمة الدولية المهتمة بالصحة، المتمثلة في منظمة الصحة العالمية التي شاب بياناتها الكثير من التخبط في بداية الجائحة، ثم ما لبثت أن صححت مسارها لمهامها بسرعة، بدعم من العديد من دول العالم، التي كانت على رأس قائمتها المملكة التي دعمت المنظمة بقوة لمساعدتها في جهودها في تقليل آثار الجائحة على دول العالم، وخصوصًا الفقيرة التي كانت في حاجة ماسة جدًّا للكثير من التوعية لسكانها بهدف منع انتشارها، والتقليل من مخاطرها.
الجهود العالمية لمواجهة الجائحة كانت متعددة، وانطوت في كثير من الأحيان بشكل مستغرب بعدم الاكتراث بخطورتها، وهو الأمر الذي وقعت فيه دول تعتبر من أكثر الدول تقدمًا في عالمنا في المجالات كافة، منها بطبيعة الحال المجال الطبي.
وتأثر العالم أجمع بالجائحة، وشمل التأثير الإنسان ومعاشه وصحته وحياته الاجتماعية وتنقلاته.. ولم يستثنِ هذا التأثير دول مجموعة العشرين التي يمثل أعضاؤها الدول العشرين الأكثر تأثيرًا في مسارات اقتصاد العالم، التي تشكلت عام 1999؛ وذلك للتصدي للأزمات المالية التي واجهها العالم خلال حقبة التسعينيات من القرن المنصرم، ولتواجه المجموعة في قمتها الحالية الأزمة الصحية التي ستكون محور فعاليات جدول أعمالها في قمتها العشرين التي ستُعقد في الرياض في الحادي والثاني والعشرين من شهر نوفمبر الجاري.
ومن باب محاسن الصدف والفأل الطيب أن مجموعة العشرين تعقد مؤتمرها العشرين في المملكة والعالم كله يتنفس الصعداء بإعلان شركة فايزر العالمية التوصل للقاح مضاد لفيروس كورونا المستجد بنسبة نجاح تبلغ 90 %؛ ويُنتظر توزيعه على نطاق عالمي مع بداية السنة الميلادية القادمة. ولم تمضِ أيام على إعلان مجموعة فايزر الأمريكية لقاحها بالتعاون مع شركة بيونتيك الألمانية حتى أعلنت شركة موديرنا الأمريكية لقاحها بنسبة نجاح تقارب 95 %. ويبدو أن هناك شركات أدوية عالمية ستعلن في قادم الأيام توصلها للقاح مضاد للفيروس.
ومع كل هذه الإنجازات المفرحة فمن الأهمية بمكان هنا توثيق الكيفية التي تعاملت بها المملكة مع الجائحة، وهي بمنزلة بروتوكول دولي واضح المعالم، يبيّن طرق مواجهة الجوائح والكوارث العالمية. ونرى هذا البرتوكول واضحًا جليًّا في الخطابَين الملكيَّين عن الجائحة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود.
في الخطاب الملكي مع بداية انتشار الجائحة، وهو الخطاب الذي يعتبر بكل المعايير وثيقة تاريخية في كيفية التعامل من الجوائح، تحدث الملك بكل شفافية وصدق، وأكدهما في أول الخطاب، وأنهما ما تعوده المواطنون منه موجهًا - حفظه الله - حديثه لهم وللمقيمين كافة على أرض المملكة، فجاء في الخطاب ما نصه: «نمرّ بمرحلة صعبة في تاريخ العالم، ولكنها ستمضي». شفافية لا لبس فيها بخطورة الوضع، ومع ذلك كانت شفافية متفائلة، وأن الوضع مع خطورته سوف يكون تحت السيطرة بالتعاون التام بين كل من الدولة والمواطنين والمقيمين لتجاوز الجائحة.
الخطاب الملكي أكد أهمية تعاون الجميع بالالتزام بالإجراءات الاحترازية لمواجهة الجائحة. الدولة من جهتها وضعت إمكانياتها كافة لمواجهة الجائحة بخطط صحية واقتصادية. وكما جاء في الخطاب الملكي لمجلس الشورى في دورته الثامنة، فقد ضخت الدولة مبلغ 218 مليار ريال لمساعدة المؤسسات الصغيرة والمتوسطة المتضررة من الجائحة، وكذلك وفرت مبلغ 47 مليار ريال للقطاع الصحي لمواجهة الجائحة.
لم تقتصر جهود المملكة في مواجهة الجائحة على الداخل؛ فمن موقعها من دولة تحترم مسؤولياتها والتزاماتها الدولية، وبصفة رئاستها مجموعة العشرين الاقتصادية، فقد دعت لقمة افتراضية لقادة المجموعة في شهر مارس المنصرم، وجاء في الخطاب الملكي للقمة بيان لأفضل السبل لكيفية التعامل مع آثار الجائحة، وركز على حتمية التعاون الدولي في هذا المجال، ووصف الخطاب الملكي الوضع كالآتي: «هذه الأزمة الإنسانية تتطلب استجابة عالمية، ويعول العالم للتكاتف والعمل معًا لمواجهتها». وجاء الخطاب الملكي في مجمله على أهمية الاهتمام بالإنسان، ووضع معالجة ما تعرض له من أزمات بسبب الجائحة فوق أي اعتبارات أخرى، بما فيها الاقتصادي. وأكد الخطاب الملكي للقمة أهمية التعاون في تمويل أعمال البحث والتطوير لإيجاد لقاح مضاد للفيروس.
الخطابان الملكيان بخصوص جائحة كورونا تم تفعيل مضمونهما على أرض الواقع. ففي الداخل وفرت الدولة لكل من أصيب بالفيروس، سواء مواطنًا أو مقيمًا، العلاج اللازم بدون مقابل. وشمل ذلك حتى المقيمين بغير صفة شرعية. وكذلك تم افتتاح مراكز فحص مجاني للفيروس في كل أرجاء المملكة. وبمقارنة الأرقام ذات الصلة بعدد الإصابات والوفيات بسبب الجائحة سنجد المملكة من أقل دول مجموعة العشرين تضررًا بتوفيق من الله، ثم بسرعة تجاوب قيادتها بوضع استراتيجية لمواجهة الجائحة التي خلفت حتى الآن نحو 350 ألف إصابة، وأقل من ستة آلاف حالة وفاة، وهو رقم لم يتم تسجيل أفضل منه إلا من قِبل اليابان وكوريا الجنوبية العضوَين في مجموعة العشرين. وربما تفوقت المملكة على رقمَيهما لو وضعنا في الحسبان الإحصاءات الديموغرافية للمملكة التي تشمل 13 مليون مقيم، يشكلون ما نسبته 38 % من السكان من ثقافات مختلفة ومتعددة.
وفيما يختص بالناحية الاقتصادية قدمت الدولة حزمة معونات بمليارات الريالات للمؤسسات التجارية المتوسطة والصغيرة لتمكينها من تجاوز الآثار السلبية للجائحة خارجيًّا، وقدمت المملكة مساعدات متعددة من طبية وغذائية وإمدادات طاقة بأسعار تنافسية للعديد من الدول التي زادت معاناتها الاقتصادية بسبب الجائحة، ووفرت الكثير من هذه المساعدات عن طريق ذراعها الإنسانية الشهيرة (مركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية).
وخلال فترة ترؤسها لمواجهة الجائحة نظمت المملكة لمواجهة الجائحة عن بُعد العديد من الفعاليات وورش العمل لأعضاء المجموعة، شملت جميع الجوانب ذات العلاقة بالجائحة، سواء كانت صحية أو اقتصادية أو اجتماعية، وشارك فيها وزراء وكبار مسؤولي مجموعة العشرين.
وبالرغم من الجائحة فقد عملت المملكة كذلك على تحقيق المحاور الثلاث الرئيسة للرؤى التي من أجلها تشكلت المجموعة، وهي تمكين الإنسان، والحفاظ على كوكب الأرض، وتشكيل آفاق جديدة.
وفيما يخص محور تمكين الإنسان فقد عززت المملكة مشاركة المرأة السعودية في هذا الملف المهم جدًّا الذي يشرف على تنفيذه صاحب السمو الملكي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود. ففي وقت قياسي، وبنجاح منقطع النظير، تم تمكين المرأة السعودية من مشاركة الرجل في تنمية وطنها، وتم تعيينها في مناصب قيادية في العديد من وزارات وهيئات الدولة، وتمكينها من العمل سفيرة لبلادها، وكذلك تبوأت مراكز قيادية في القطاع الخاص بترؤسها مجلس إدارة مصارف بنكية رئيسية في المملكة، وتم كذلك السماح لها بقيادة السيارة الذي عطل منعه لأسباب غالبها اجتماعي ولعقود سهولة تحركها ومشاركاتها في تنمية بلادها.
ولعله ليس من باب المبالغة أن ملف تمكين المرأة تم بنجاح تام، واتضحت معالمه ونتائجه كافة على أرض الواقع؛ وعليه فإن التركيز في المرحلة القادمة سيكون منصبًّا على عودة تمكين أخيها الرجل بعد تسوية الفراغ الحاد الذي نتج منه بطء واضح في مشاركة المرأة في تنمية بلادها الذي تم إصلاحه بكل مهنية واحترافية وبسرعة متناهية.
الخطاب الملكي لمجلس الشورى في دورته الثامنة، وكذلك تصريح صاحب السمو الملكي ولي العهد، الذي تلا الخطاب، يؤكدان أن إيجاد فرص عمل للرجل سيكون من نصيب خطط الدولة في قادم الأيام. الحفاظ على الأرض هو إحدى ركائز رؤية المملكة 2030، ومن ذلك الحد من مستويات التلوث، ومكافحة التصحر، وتشجيع الممارسات الصديقة للبيئة.
المشاريع الكبرى التي بدأ العمل بها، كمدينة نيوم ومشروع البحر الأحمر، تصب في تحقيق محور تشكيل آفاق جديدة، وهو يعد الهدف الثالث الذي تهدف استراتيجية مجموعة العشرين لتحقيقه.
ختامًا، لا يمكن الحديث عن تجربة رئاسة المملكة لمجموعة العشرين دون التطرق للإنجازات الكبيرة التي حققتها على المستوى الرقمي، الذي تم تنفيذه بوتيرة متسارعة نتيجة الجائحة؛ فتم بنجاح إطلاق منصة تعليمية فاعلة جدًّا على مستويات التعليم كافة، العام والجامعي. ووزارة الصحة أطلقت حزمة من التطبيقات مما يتعلق بصرف الدواء وفحوصات كورونا والاستشارات الطبية. ووزارة العدل هي الأخرى نجحت نجاحًا باهرًا في النظر في القضايا عن بُعد بطريقة مكّنت المتخاصمين من التواصل مع المحاكم بغض النظر عن الموقع الذي يوجَدون فيه؛ فالتقنية التي وفرتها الوزارة حلّت كل هذه الإشكاليات بجدارة ومهنية، ووفرت كذلك مركز تواصل متقدمًا بموظفين متدربين بعناية، ومؤهلين للإجابة عن الاستفسارات كافة المتعلقة بالقضايا المنظورة لدى المحاكم.
قطاعات الدولة كافة هي الأخرى أطلقت تطبيقات جعلت من الممكن إنهاء الكثير من المعاملات بدون حاجة الشخص للحضور بنفسه؛ فالتقنية حلت محل الإجراءات اليدوية التي كان معمولاً بها.
التجربة السعودية في رئاسة مجموعة العشرين، وبالرغم من الجائحة الكونية، كانت ناجحة بكل المقاييس، وعلى كل المستويات، سواء في مواجهتها للجائحة داخليًّا، أو دورها في تعزيز التعاون الدولي خلال الجائحة، ومساعدة الدول الفقيرة لتجاوز تداعياتها، أو في تجربتها الناجحة في الاستفادة من التقنية بامتياز خلال الجائحة.