د. ابراهيم بن عبدالرحمن التركي
لا يكاد يُلتقَى بستينيٍ فما فوقه - عبر منبرٍ إعلامي أو مجتمعي - حتى يُسألَ عن سيرته الشخصية أو الذاتية؛ هل كتبها؟ أو: متى سيكتبها؟ أو: لِمَ لَمْ يكتبْها، وكان بعضُنا يرى السيرة المكشوفة المبتذلة الناضحة بالخطيئة سيرةً شجاعةً تستحق القراءة، وأيقن غيرُهم أن المجاهِرين مرضى، وفي مقابلهم تمتلئ الرفوف بالدفوف ممن يعزفون على أوتار التورم، أو يُطلون من منائر التقى؛ فما الذي تضيفُه فروسيةٌ دون رايات، واعترافاتٌ يهزأُ بها الوعي؟
** الاستفهاماتُ لا تكتفي، والإجاباتُ لا تفي، والأمر مرتهنٌ بتغيُّر الزمن الذي فقد خصوصيتَه؛ إذ صار الناسُ يعرفون دقائقَ غيرِهم عبر مواقعَ ذاتِ ملامحَ افتراضيةٍ في حين يضِنُّون بمعلومات محايدةٍ في دنيا الواقع، وهي مفارقةٌ تستحق التأمل؛ فهل القناعُ الآليُّ الممزقُ الذي أَدلج في غرف النومِ رِدْءٌ ساتر، والجِوارُ والصداقةُ والقرابةُ نطاقات ألغام؟
** الزمن للسيرة الذاتية، ومن لم يكتبْها فهو ينوي كتابتَها، ومن لا يقدر على ذلك سيبحث عمن يكتبُها له، وسيُخرجُها للناس ولو شابها خلطٌ فتعثرت وتبعثرت، ولو ادّعى ما ليس فيه، ولو أساء لبني أبيه، والظنُّ أنهم سيصبحون مصادر للتأريخ في زمنٍ لاحقٍ؛ فـ»المعاصرةُ حجاب»، ومن يعرفُه مُجايلوه لن يعتنوا بسيرته كما لن يكشفوا سريرته، وقد لا يجدُ ناصحًا أمينًا يُوقفُه على مواطن خللِه وخطلِه.
** تنتشر السيرُ اليوم، وهي - لثللٍ فينا - أمتعُ وأنفعُ من الروايات إذا تحرى صاحبُها الصدقَ والإجادة والإفادة. وهذه عناصرُ مهمةٌ لمن شاء أن يُقدم نفسَه ومرحلتَه بيقينِ باحثٍ متمكنٍ من اللغة والسردِ والمرجعية. والمتابع لبعض السير يلحظُ أنّ كثيرًا منها لا يستحقُّ النشر لتوغل الأنا فيها، ولعدم مقدرة ذويها على التمييز بين ما يمكن احتسابُه إنجازًا أو عدُّه انحيازًا.
** قبل سنوات (2003م) جاءت سيرةُ الأستاذ إبراهيم الحسون 1911- 2005م الموسومة: «خواطر وذكريات» في طبعتها «الأولى» ذات الأجزاء الثلاثة مختلفةً من حيث مباشرتُها وصراحتُها واحتواؤُها حقائقَ ووقائعَ صادقةً، وربما صادمةً، ولكنها لم تنلْ ما تستحقه من المراجعة مثلما نفدت طبعتُها مبكرًا، ولم تُعَدْ إلا قريبًا (2019م) مع إضافة جزءٍ رابعٍ خاصٍ برحلات المؤلف المستقاةِ من أوراقه، وهو أضعفُ الأجزاء، وقد زيد في الأجزاء الثلاثة تقديمٌ وتقريظ، وأنقص منها حكايةٌ وشبهُها لتبقى مع ذلك أُنموذجًا للسيرةِ التي تستحقّ التنويه. وثمة أمثلةٌ قليلةٌ تشبهُها من السير المضيفةِ المضيئةِ غيرِ المسكونة بشهوة الإشهار والانتشار.
** يبدو أن الجيلَ الشابَّ لن يحتاجَ إلى من يُوثقُ مذكراته؛ فقد كتبوا بالصوت والصورة ملامحَهم على قارعة مقهى ومصعد سوق وخيمة استراحة وبهو نُزُل؛ لتشيَ بتفاصيل أيامِهم، وربما لا تتجاوزُ ذاكرتُها قَصَّة شَعرٍ، وبيتَ شعرٍ، وغلاف كتابٍ منكفئٍ على سطوره الملأى بما يُسطِّحُ «واحرَّ قلباه» ويصدِّرُ «من قلبُه بَشم».
** الحاكي سيدٌ ومَسود.