د. محمد عبدالله الخازم
«افتقدنا إدارتك وتحدياتك، وقد تعلّمت منك بأن القيادة تعلّم وتحد دائم، فاستمتعت بالعمل معك، أقترح عليك كتابة مقال حول تجربتك في هذا الشأن». رسالة من زميلة عمل سابقة، وتلبية لطلبها يأتي هذا المقال. تجربتي أثراها تنوّع العمل في أكثر من قطاع، أكثر من منصب، أكثر من مدينة وأكثر من دولة. ديدني هو الإتيان للمكان كمتعلِّم واستخدام التحدي الفكري/ العقلي كوسيلة تعلّم، إضافة لوسائل التعلّم الأخرى.
لا آت لمنصب يعمل به آخرون لأخبرهم بما يفعلون قبل التعلّم منهم. المعلومات والخبرة والتمرّس لا تأتي عبر كبسولة واحدة نتعلّمها ونهضمها خلال أسبوع لتبدأ بعدها إلقاء الأوامر، وإنما هي عملية تحول مستمرة ودائمة. التعلّم لي وللآخرين وبناء الفريق يكون عبر التحدي الذي أشارت إليه الرسالة بطرح أسئلة حوارية فكرية، مثال؛ هل هذا أفضل قرار يتخذ؟ هل هناك بدائل أخرى؟ ما هي المرجعية التي نسير عليها؟ هل نحن نتصرَّف وفق قيمنا بشكل محايد وعادل أم نحمل انحيازاً ما في وجهة النظر، مع أو ضد القرار أو المعني به؟ هل نحتاج إلى الاستثناء وهل هو متاح؟
نتجادل بشكل صحي فأقتنع أو أُقنع أو نتفق على البحث في مزيد من المعلومات/ المستندات/ المرجعيات في الموضوع. طبعاً، أهم شرط هنا تقبل الفكرة الأخرى متى بدت الأصح أو الأفضل. القائد الجاهل ليس من لا يحمل شهادة، فكثر يحملون الشهادات، لكنه الغير قادر على التعلّم من فريقه ومن أصحاب الخبرة السابقة ومن البيئة التي يعمل فيها. تعلّم القانون يبدو سهلاً لأنه مكتوب ويمكن العودة إليه ولكن الأهم هو القدرة على تنفيذه روحاً قبل نصاً وإدراك تفاصيل المهام وطبيعة العاملين والجمهور المستفيد وتوجهات المؤسسة. جملة اعتراضية: للأسف وجدت من يتحدث باسم النظام وهو لم يقرأه. مهم إدراك وجود كفاءات تعمل معك قادرة وربما أعرف منك بحكم الخبرة والتخصص، وإلا فالجهل هنا يكون مركباً، جهل التعلّم وجهل التعرّف على الكفاءات وتقديرها.
بدأت قائداً في إدارات لست ملماً بتفاصيلها الفنية لأول وهلة، فكان التعلّم من خلال التحدي الفكري للعاملين معي، إضافة إلى القراءة المكثّفة والسؤال وغيرها. يقود القائد فريقاً من تخصصات وخلفيات متنوِّعة، عليه سماع رأيهم وتمعّنه قبل اتخاذ القرار والحذر من فخ الإجماع الوهمي حين يصمت الجميع ويعتقد بأنهم يوافقون آراءه. الإجماع الوهمي من الأخطار التي تصيب المنظمات المنغلقة فكرياً ويديرها قادة طبعهم التسلط. وأكبر من ذلك خطراً، إبعاد الكفاءات المتميزة ليبقى القائد شيخاً على مجموعة من الأقزام والتابعين. لم أتخلّص من موظف لمجرد عدم اتفاقه مع رأيي أو مزاجي، حيث الحوار الدائم بوعي يقرِّب لي الناس ويجعلني أتسامح مع تنوّع الأمزجة طالما معايير الإنتاجية قائمة. فريقي أساس ارتقائي فبدون جيش متمكِّن لا ينجح القائد.
للإيضاح، لست دائماً في مركز القيادة الإدارية، فللقادة الذين عملت معهم مقالات أخر، ربما. وتذكير نهائي، هذا المقال وما قبله عن قواعد الاستثناء يمثِّل بعض تجاربي، حفّزني على حكيها شهودها الذين عملت معهم، فلهم مني الشكر والتقدير.