د.فوزية أبو خالد
لا أدري إذا كان الكُتَّاب يمرون بهاجس مؤرِّق أن يكتبوا عن تجاربهم الروحية والجسدية الغامضة الساطعة، الجارحة الكامدة, الودودة اللدودة كما يمر به بعض الكاتبات مثلي أو أن كان ذلك الهاجس لا علاقة له بهوية النوع الاجتماعي بقدر علاقته بنوع تفاعل الناس مع التجارب التي يمرون بها أي بدرجة ملاحظتهم واستماعهم لإيقاعهم الداخلي وبطاقة التحمّل لديهم وبقدرتهم على التستر على جراحهم أو رغبتهم في تقاسمها مع الآخرين مما يجعل مثل هذا الهاجس حالة فردية خالصة. غير أن ما أعرفه حقاً في علاقتي بهذا السؤال هو أنني مهجوسة منذ أدركتني حرفة الأدب أو هواية الحبر بالتفكير في كيفية كتابة تلك التباريح الروحية والجسدية التي يشترك في مواجهتها على اختلاف تجاربها البشر. مثلاً تجربة شجن فقد أسنان اللبن ودهشتها، تجربة الإدراك الأولى، تجربة الانتقال من الطفولة للمراهقة بما يعتريها من تحولات مفاجئة جارفة، تجربة التجارب التي كتبت سفراً خاصاً بها وهي تجربة المخاض وقد استعرتُ عنواناً لها من الأمثال الشعبية فسميتها «الساعة المنسية». ومنها أيضاً تجاربي الموجعة في مواجهة أمراض عاتية أو صعاب عاصفة. وبقلق هذا الهاجس عشت عاماً بعد عام تأجيل تناول تجربة جسدية روحية مشتركة بيني وبين نصف نساء العالم إلا أنني اليوم قرَّرتُ الكتابة عنها فما هي هذه التجربة. منذ دخلت الأربعين وصار لزاماً علي أن أمر بالتجربة الوردية التي ليست وردية البتة بذاتها، بل وردية بما قد نتجنبه بها من أخطار داكنة لم أكف سنوياً عن تجرع آلام تلك الآلة التي بغير رحمة تقبض على تلابيب الصدر وبكل ما في ملمسها البارد من قسوة تعصر الجسد والروح في عجينة واحدة وتحيلهما إلى ما يشبه التذري لهباء في أقل من لمح بصر بما يبدو لشدة الهصر كأنه دهر.
أجلس كل نصف عام في حجرة الانتظار مع عدد يزيد أو ينقص من النساء على مشارف الأربعين إلى ما بعدها من اندلاعات العمر أو احتدام الشفق، متوجسة أحاول التشاغل عن توتري بالتبسّم في وجوه رفيقات اللحظة أو الإصغاء لدقات القلوب المتخفية في أحاديث مقتضبة مغرقة في الاغتراب عن موضوع اللقاء فلا تزيدني محاولة قراءة تلك الوجوه النسائية المختطفة مثل وجهي إلا تبعثراً بين عشب الأمل وبين يباس اليأس. لا شيء يشغلني عن طفولة وجداني في تلك اللحظة والشوق المبرح لحضن أمي إلا توقع الأسوأ -لا سمح الله - فأحاول التخفف من وقع الوجع الصاعق المنتظر بندى الدعاء.
أفكر ألم يكن ممكنناً لمن اخترع المموجرام أن يجعله أقل غلظة أو يخلط ملمسه الشرس بشيء من الحنان كما ترش الأمهات الشهد على علقم مواجهاتنا اليومية الصغيرة. ردت رندة شريف مسؤولة الأشعة وكأنها سمعت تفكيري دون كلمات.. المموجرام الآن يعتبر رؤوفاً جداً بالمقارنة لما كان عليه الأمر في الثمانينات كان لا يقل عن مقصلة آنذاك. ثم تضيف إلا أن لا شيء يعادل فرصة النجاة من السرطان - بإذن الله.
أجد نفسي أساءل المموجرام أسئلة وجودية لا أظنها بعد قليل ستكون عصية الإجابة على الذكاء الصناعي.
أيها المموجرام: هل أصغيت قط للصرخات المكتومة خلف الشفاه المطبقة؟
هل سمعت تكسّر الزجاج على المرمر؟ هل أحسست بتشظي الروح والجسد لحظة اصطدام الطير بالجدار؟ هل بلغك همساً ليس صمتاً وليس كلاماً.
تنادي اسمي الممرضة فأنتبه لأعود أدراجي من فلوات كنتُ أحاول الفرار إليها بأفكاري المحدودة في الكون اللا محدود.
أدخل غرفة الأشعة المثلجة. هناك سيدة تنحني بإخلاص تعقم سطوح الآلة وبحيادية تدعوني للاستعداد والاقتراب.
تحتبس أنفاسي خلف الكمامة إلا أنني أحس بأنني أنجح لأول مرة في إخفاء جزعي المزمن أمام المموجرام الذي تحول بمرور الوقت من أداة صماء إلى معبر لتجربة إنسانية تستحق التسجيل. وإن كنت لا أظن مع الأسف أن هذا المقال قد وفاها حقها أو استطاع حقاً أن يكشف مجاهلها بالكيفية التي تحدث على أرض الواقع أو ببصماتها العميقة على الروع.