ولدت ونشأت في مدينة حرمه وعندما بدأت أخطو خطواتي الأولى إلى خارج محيط المنزل بدأت أتعرف وأستكشف العالم الصغير من حولي. كانت المساكن كلها من طبيعة المكان طينية والأسوار ضيقة ترابية هادئة هانئة نادراً ما يعبرها سالكون حيث الرجال إما في الحقول الصغيرة لسقى النخيل والزروع وتوجيه الماء الشحيح من نخلة إلى أخرى ومن زرع إلى آخر حيث تقوم الجمال أو الأبقار بنزح الماء من الآبار لجعلها تتدفق إلى حيث يريد صاحب النخل. وإما متواجدين في الأسواق وبعض الأماكن لبيع بعض الحاجات وقضاء الوقت في الأحاديث العائلية وكان هناك كتاتيب تعلم القرآن وما يتيسر من حساب وكتابه وتوحيد وعندما أضاءت شمس المعرفة وفتحت المدارس الرسمية في جميع مناطق المملكة وذلك في أواخر الخمسينات من القرن الماضي أرسل الآباء أبنائهم لنهل مختلف العلوم والمعارف وتوافد الاساتذة والمعلمون إلى المدن والقرى لتعليم النشء العلوم الحديثة.
كنت أعتقد أن العالم فقط هو حرمه وأزقتها وبساتين النخيل الصغيرة المحيطة بها فوسائل الاتصال نادرة والمذياع يقتنى سراً إن وجد.
كنت أنا وأترابي نمارس حياتنا اليومية في دعة وسكينة نعيش فصلين من فصول السنة الصيف والشتاء ففي الصيف تجود النخيل بما لذ وطاب من التمور المتنوعة ما بين أصفر وأحمر بمذاقات مختلفة لذيذة تأتيك طازجة من بواكير الصباح ليلتهمها الناس مع القهوة العربية ثم ينصرفوا إلى أعمالهم وشئونهم الحياتية.
أما في المساء فكان الناس ينتشرون على أحد مداخل القرية وعند بداية المساء تأتي الأغنام مع الراعي مسرعة تبحث عن الماء أولاً والذي يكون عادة خارجاً من أحد الحقول الزراعية ويعرف بالمدى أو الساقي فتطفأ ظمأها ثم تنصرف إلى بيوت مالكيها كل واحدة منها تعرف بيت مالكها وينصرف الجميع عائدين إلى مساكنهم ليؤدوا صلاة العشاء قبل النوم الذي عادة ما يكون فوق السطوح ليتسامروا قليلاً ويهجعون إلى النوم تحت سماء صافية مرصعة بنجوم تتلألأ كالذهب وتبصر الشهب وهي تنطلق من السماء في سرعة لا يبلغها أي صاروخ بشري وعند الفجر يستيقظ الجميع لأداء صلاة الفجر وبدء يوم جديد كسابقه.
عشقت تلك الدعة والأنس وداعبتني الذكريات والأماني وتمنيت لو تعود من جديد فقد مللنا الأخبار المزعجة وصخب الحياة وتلوث البيئة بكل أنواع الملوثات وتغير عادات الناس وتقاليدها وتكالبهم على المال وتنافسهم على الدنيا ومظاهرها الزائفة وتلون الناس مثلما تلونت حياتهم وكثر النفاق وانتشر الكذب والخداع وأصبح الجميع يلهث وراء المظاهر الخادعة وتلونت النفوس والوجوه وبدأ كل شيء بأصباغ وألوان ومساحيق وانطفأت الطيبة والمحبة إلا من قلة.