جزء من مَثل.. تمامه (ما ليس في البحر)
.. عبارة عن نكتة (لغوية) -حرف النون-
وبالفعل لو دققنا لوجدنا فيه ما ليس بالآخر..
ولأن الدنيا صغيرة في مواقفٍ خفائفٍ(1) في ظاهرها.. لكنها تعلّم، لكأنها تجر لك أذيال آلامها من أقرب الناس إليك.. هكذا، وأقصد بلا ترصّد،
ففي مواقع يلزم الظرف إيقاع طبق على طبق، حين تكون مساحة الاختيار غير سانحة، فتبرز الأنانية وهي مقيتة وبأعتى صورها، فتلقي أثقالها، حتى ليكاد الحصيف يردد ما لها؟!
لكن لا بد مما ليس منه بدّ..
لم تكن السنين التي بيني وبين أخي الصغير وقد حاذت العشر تحول عن المنافسة، وإن طالني الملام أكثر على أساس أنني أكبر، وأعقل.. إلا في مسائل القلب، أي الحب، فهو ميل ليس للبّ به اختيار، ولا للإيثار في عالمه مجال، بل أشدد على أن تلكم لا تجد للسنّ حظًّا.. فضلاً عن الرزانة نصيبًا، فالكلّ -ربما- يسخي إلا بالحب فنحن طماعون بهذا الجانب، وقلّما نضحي.. فلا نسلّم، حتى يضع أحدنا عن ظهره أوزار قضّها وتبعات قضيضها، أي بعد جهد يأخذ حقه شبه تام. ففعلاً لو رمت تشبيهًا لقلت أن الحب كالحرب ..لأن ميل القلب هو دنيا أخرى.. لديه فما كل يوم القلب يعشق، ولا كل يوم يجد معشوقًا يستحق.. لشرع أبوب المهجة، في تودد هذا أو مضغ ذاك، فكيف بالذوبان في أجوائه.
كانت الصبية التي في ساحة تلكم الواقعة زهرةٌ جميلة أنيقةً نبتت في حيّنا..
تروح وتعود متمخطرةً بين مرافئ النهر المتاخم لقريتنا الوادعة، فكانت القلوب تتسابق إليها، لكن لم يبلغ سوى قلب أخي وإن لم يلقها بالاً، فيما أنا كنت آتيها بقلب يزفّ(2)، وفي دلالها لا تمل نفسها..، وإنما أُمني بشيء من التراخي حين أذكر لجدتي مقالةً تصب في صميم حالي (اختيار القلب ليس للظواهر.. معللات له)! ومن هنا أسلّم أحيانًا، لكن القلب يعاود بي إلى تلك الساحة بلا طوعي، وهل من رأي بالحب لعاقل!(3)
أنهى أخي الثانوي فذهب للمدينة ليدرس الجامعة فتراخت الصبية.. ما أخذها عن جمعنا، فكنت أظن بالبدء أن للحجاب والحياء دورهما في هذا، غير أنني تأكدت أن غياب أخي العلّة الكبرى، إذ أول إجازة قابلته وهي بضع أيام تسبق الاختبار أخذه الشوق لقريتنا فعاد لتشرق أطلالتها علينا، وبعد هذا الموقف الجلي سلمت ولم يسلّم القلب.. الذي انزوى عن وجهة بنات حواء فكانت آلامًا تسأل أحيانًا وتلوم أخرى عن تأخره بالزواج وبنات الحلال بالقرية يبز بعضهن بعضًا وما تدري أين مال قلب ابنها.
وحتى بدأت إجازة السنة فقدم الابن وهو ممتلئ أشواقًا للقرية وأهله وبالتأكيد للصبية بعد أن أودعت بذهنه الجامعة معالم للحياة أكبر من تلكم أبعاد القرية التي لا تتعدى معالم ما مدته به من قبل أوسع من مساحتها.
وكانت الصبية أكثر أهل القرية فرحًا به،
وأسعدهم.. في استقباله.
حتى أنها أحايين لتتجاوز الأعراف لتفوز برؤياه، فربما تتسلل خلسة إلى البحر فيلتقي على عفاف يحضر ولا يغيب حتى أسرّت له بأحد تلكم - اللقاءات- أنها من الطفولة شغوفة به، فكان حظ أخيه الكبير وهو يتتبعها يومئذ أن رنّت تلك الكلمات أذنيه فكاد يهوي لولا بقية تعقّل (مع العمر اكتسبه)..
فأغلق الطريق كله على قلبه..
فيما بالضفة الأخرى أقنعت أخي الصغير -أقصد حبيبها- التقدم لخطبتها حتى لا يحرجها أبوها من طوارق الخطّاب، فوافق على مضض.. من غير قناعة تامة، فصخب المدينة وضوضاء الجامعة ملئ منه كل شيء سوى بقية باقية من آثار الطفولة عوالق للقرية وحياتها الأنيقة.
ذهب الابن للأب بعد أن خجل أن يطلب من أخيه الكبير صحبته (أن كيف يخطب قبله.. وهو أكبر). أخذ من الأب موافقة مبدئية جعلت من الحبيبة كالطائر بكل أحلام الدنيا.. لكن
ما خيّم المساء إلا وأسرّت أمها للأب إلا تذكر أن هناك رضاعة بينهما؟!
هنا انتبه الأب فأمر والدتها الذهاب لأمه للتتثبّت.
هنا أمه أكدت لها هذه المعلومة فاسرّت أم الصبية عنها النبأ.. وجعلت الأمر كالسواليف التي تبرز بالقرى غالبًا بلا دواعي ذكرها، فالفراغ الذي يعيشونه كفيل بأن يسوّغ أي شيء!!
اصطدمت البنت بالأمر فيما خطيبها أظهر بعض ضيقة ولم يكترث بما ناب أمر خطبته من خطب أوقف المشروع أن يتمّ.
غمت الفتاة وجلست بانطوائها.
هنا تذكرت الأم هذه الصبية وأن لِمَ لا تعرضها على ابنها الكبير خصوصًا أنها من ستكون أحد حمام الدار، فواحد زوجها والآخر أخوها.
إلا أن الكبير لم يقبل البتة حتى التفكير بالموضوع.
بل إنه كلما يكاد يخفّ فؤاده للأمر تذكر ذاك الحديث الذي دار بينها وأخوها الصغير فينضوي خلف حبّه الذي ناب من نوائب الزمان ما لا يقيم عوده، أو يصحح من عطبه.. من شيء.
... ... ...
1) الترادف هذا وجهٌ من البديع كما في قوله (ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضاعف..) البخاري
2) كذا أخبرت الآية {فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ}، أي: يسرعون ويهرعون...
3).. على رأي حكيم الشعر «المتنبي»