د. حسن بن فهد الهويمل
خُلق الإنسان, وخُلقت معه: أهواؤه, وشهواته, وغرائزه. وأُعطي قسطاً من العقل, متفاوت القدرات, لضبط هذه الدوافع, وترشيدها.
وبقدر قوة: العقل, والإرادة يستقيم حامل الأمانة على ما ينفع الناس.
الإنسان المجرد من القيم موصوف بأبشع الصفات في القرآن. والحياة المجردة هي الأخرى تافهة؛ إذ لا تساوي عند الله جناح بعوضة, بدون استقامة أهلها على المأمور.
عندما تتلبس الحياة والإنسان بالقيم يكون لها شأن آخر, وقيمة أخرى. والقيم المعنوية لا تعد, ولكن من أقومها: الصدق, والسخاء, والصفح, والصمت, والعدل, والعزة, والعفة, وعلو الهمة, والقناعة, والمروءة, والمداراة, والنبل, والنصح, وما لا حصر له من فضائل الأعمال, والأقوال.
والإنسان ليس جسماً من لحم, ودم؛ إنه بهذا الكيان الحسي لا يختلف عن أي أمة على الأرض, بل يكاد يكون من أدناها. فهو لا يعيش في الماء, ولا يطير في الهواء, ولا يحمل الأثقال, ولا يسبق الريح.
مخلوقات حيوانيَّة, وحشرات تفوقه بقدراتها. إنه بالأمانة التي حملها يكون إنساناً سوياً, مسيطراً على الكون بعقله, وإمكانياته.
الظَّلمةُ, والقتلةُ, والجشعون, والكذبة يحملون صفة الإنسان في القرآن, وبدون القيم الأخلاقية يفقدون سمة التكليف, وحمل الأمانة.
(الأمانة) شاقة؛ ولهذا أبت السماوات, والأرض, والجبال حملها, وأشفقن منها. وتلقاها الإنسان بظُلمه, وجهله.
وتأتي (العفة) في سياق القيم جامعة مانعة, وهي الكف عما يدنس عرض الإنسان من فعل, أو قول, أو ترك, أو صمت. إنها التوازن, والتوسط بين طرفَي: الإفراط, والتفريط.
وكما قلنا عن سائر القيم, تكون بحق الأفراد, مثلما تكون بحق الجماعات، بل هي في حق الجماعات أخطر, وتزيد الخطورة حين يكون للجماعة سلطة على المجتمع، سياسية, أو دينية.
و(العفة) تتبادلها الجماعات السياسية, والدينية فيما بينها, ومع الأفراد.
العاقل المستبرئ لعرضه, ودينه يلتزم بالعدل, ويجتنب التسلط؛ إذ لا عفة مع العنف, ولا مع التسلط, وليس التسلط وقفاً على الدول, ولا على الحكومات, إنه مع تعدد الكيانات, والأحزاب, والطوائف, وكل قادر على الفعل يحتمل العفة, والتسلط, وقد قيل:- (لو أنصف الناس لاستراح القاضي). ولو عف الناس لاستقامت الحياة.
إن هناك مَلَذَّاتٍ, وشهوات تغلب على النفس؛ فتردي صاحبها.
ومن دقائق العفة عدم الإيذاء بالنظر إلى عورات الناس:- {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ}.
وافتخار الشاعر الجاهلي بالعفة دليلٌ على أهميتها:-
(وأغُضُّ طرْفِي إن بَدَتْ لي جَارَتي
حتى يُوارِي جارتي مَأوَاها)
وكيف بما سوى غض البصر.
تعفف الفقراء محمدة:- {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ}. ومن التعفف الكف عن مال الأيتام:- {وَمَن كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ}.
ورأس العفة الزواج, فالله في عون (الناكح الذي يريد العفاف) حديث صحيح.
ثم إنَّ العفاف من المروءة, قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه:- (والمروءة الباطنة عفاف).
وهي من كمال المروءة, والنبل, والكرم. وبخاصة حين تكون حاجزة عن أموال الناس, وأعراضهم, يكف يده, ويحفظ لسانه, ويغض بصره, ويحصن فرجه, ويقنع بما عنده.
ومن طُلِب إلى خطيئة فخاف الله, وامتنع كان من السبعة الذين يظلهم الله. وهذا لون من العفاف.
بل الكف عما يغضب الله عمل يتوسل به العبد عند الضوائق, كما حصل لأصحاب الغار, الذين انطبقت عليهم الصخرة, توسلوا بصالح أعمالهم.
والعفة لا تكون من عاجز, أو كاره للفعل, أو خائف من عقاب الحياة.
للعفة صور كثيرة, ذكرها المتقصون لها. العفة عما حرم الله, إذ ربما يكون هناك مباحات, ولكنها قادحة في المروءة.
وتتحقق أهمية العفة في ظل هيمنة المدنية الغربية المتحللة من كل القيم.
مجتمعاتنا اجتاحها العري المعلوماتي, وأصبح الإنسان قادراً على معرفة أدق الأحوال, وأخفى المعلومات. إن حاضر الأمة بأمسّ الحاجة إلى العفة؛ لأن التهتك يتحدى مشاعر المتعففين.
كان الناس في السابق مستورين في بيوتهم, والنساء في جلابيبهن, والأطفال في ملابسهم الضافية. أما اليوم, وبعدما سادت المدنية الغربية, وشاع التبرج, والاختلاط, والسفور, أصبحت العفة نادرة الوجود, لا يتمثلها إلا الأشداء من الرجال, والنساء.
نسأل الله الثبات, والسداد, والرشاد.