د. محمد عبدالله الخازم
عندما بدأ التخطيط للزواج وحساب التكاليف المادية كما هو المتوقع في مثل هذه الأمور، جاءت فقرة الذبائح ولتسهيل الحساب قال لي الوالد، أطال الله في عمره، لا تشيل همها فسيتم تغطية تكاليفها من (المباركات) أو ما يسمى (العانيات) لدى البعض أو المساعدات التي ستأتي من أهالي القرية والأحبة. هي أعراف يابني ولا يتوقع من الناس الكثير لكنها عندما تأتي من عدد كبير يكون لها قيمتها، ففي القرية متوقع أن يبارك الشخص بمبلغ 50 ريالا إلى 100 ريال كمباركة، والمقربون لهم وضع آخر حيث ستكون مساهمتهم أكثر. سألت الوالد هل يتباهون بذكر المبالغ، أجاب بأن ذلك لا يحدث في عرف قريتنا، فكل يمد يده وأحياناً عندما يبادر أكثر من شخص في وقت واحد قد لا تعرف كم منح كل منهم لأنها لا توضح. نحن تعودنا على ذلك في مناسبات الزواج بالقرية. وفي الولادة تعودنا هدايا وعند إنهاء منازلنا تعودنا هدايا. تعودنا أن نكرم الضيف وتكون فرصة ليشارك الجيران وأهل القرية في المناسبة.
هكذا الأمر يعبر عن تعاطف وتعاون وتقدير اجتماعي طبيعي جزء منه مهم اقتصادياً في مجتمع ريفي وذي دخل متوسط وتعود على مشاركة بعضهم البعض في الزرع والحصاد والصرام والبناء وتشييد الطرق وفي التشارك في الأعياد وفي كثير من الأمور. هذه الفكرة ليست وليدة عهد وليست خاصة بمنطقة دون غيرها فهي ظاهرة في مختلف مجتمعات العالم التي لم تفسدها حياة المدن والبذخ. بل، من نبعها طورت أفكار تنموية وتمويلية عالمية تستخدم لغرض التنمية المحلية للمجتمعات الفقيرة أو ذات الدخل المحدود بما في ذلك برامج فازت بجائزة نوبل للاقتصاد وتبنتها المنظمات العالمية.
هذه التركيبة بأعرافها الاجتماعية البسيطة يتم هدمها بشكل غريب في مجتمعنا عبر التقليل من أهميتها من ناحية كوننا أصبحنا أغنياء ونعيش في رخاء لا يستوجب احتياجنا لبعض ولا يستوجب احتياجنا لمنظومة اجتماعية نلتف حولها وتربطنا برابطها الاجتماعي البسيط. ولكوننا أصبحنا ننساق خلف البعض الذين صنعوا من العادة البسيطة ما أصبح يصنف «هياطاً» في العرف الشعبي. والهياط يعني المبالغة في أداء العادة لغرض الشهرة أو المنافسة أو إثبات الأفضلية أو غيرها من المعايير. رد الفعل الطبيعي هو نقد ظاهرة (الهياط) لأنها تخالف المنطق، بل الاستهزاء بها، لكنه المقلق أنه استهزاء يمتد إلى الانتقاص والتدمير للعادات المجتمعية البسيطة والفطرية وفق ما كان الناس يتداولونها. لذلك نحن نحتاج التفرقة بين نقد تصرف الفرد أو المجموعة الصغيرة المبالغ فيها والقاضية إلى ما يعرف بمظاهر (الهياط) وبين نقد عادات المجتمع التعاونية والتكافلية والودودة بين الناس.
ربما لا يكون فرض قوانين صارمة مقبولاً لأن الأمور نسبية وسلوكية متنوعة من مجتمع لآخر ويصعب ضبطها وفق مسطرة واحدة، لكنه سيكون مقبولاً لو بادر وجهاء المجتمع والشيوخ بنبذ مثل تلك المظاهر وسط بيئاتهم المحلية. وسيكون مقبولاً لو بادر الأغنياء والمشاهير وكبار القوم بتقديم نماذج متواضعة ليقلدها الناس، حيث جبل الناس على التقليد وأحد مسببات الهياط هو التقليد ومحاولة إثبات الجدارة بأن الشخص يقع في مرتبة أو طبقة اجتماعية عليا.