الهادي التليلي
كم يحتاج الواحد من كلمات كي يعدد صفات رجل تنطبق عليه مقولة مفرد بصيغة الجمع الحبيب بورقيبة أول رئيس للجمهورية التونسية وقائد حركتها التحررية الرجل الذي أعطى العالم الوصفة السحرية لحل القضية الفلسطينية واتهمه ساعتها القادة الفلسطينيون ومعهم جمال عبدالناصر بالخيانة، بورقيبة الذي قال عنه الرئيس الفرنسي الأسبق ديغول لا أستطيع النظر في عينيه لفرط حدتهما وثقته بنفسه، الرجل الذي كان تكوينه الأكاديمي مقطراً من عقاقير شتى أفرز طريقة ومنهجاً نضالياً أطلق عليه الري قطرة قطرة أو سياسة المراحل.
حيث درس الابتدائي بالمدرسة الصادقية والثانوية بمدرسة كارنو ومنها حصل على منحة دراسة بباريس، حيث درس العلوم القانونية والسياسية من 1924 إلى 1927 أي بين الحربين العالميتين في فترة شهدت تصاعد النزعات اليسارية والأفكار التحررية فكانت ثقافته من عمق الوعي الجمهوري للمستعمر وهو ينتمي لبلد تحت الاستعمار في مرحلة دراسته كان بورقيبة شديد الحرص على إيصال صوته ورسالته.
عودة بورقيبة لوطنه بأفكار تحررية واجهت واقعاً مغايراً للقيم التي تعلمها فانخرط في الحزب الحر الدستوري المعارض للاحتلال سنة 1933 وخرج منه في نفس العام ليؤسس الحزب الحر الدستوري الجديد في 2 مارس 1934 بمدينة قصر هلال الساحلية هذا الحزب الذي ستتغير تسميته لاحقاً إلى الحزب الاشتراكي الدستوري.
بعد تأسيس الحزب الجديد تم اعتقاله ونفيه بأقصى صحراء الجنوب التونسي في برج البوف ولم يفرج عنه إلا في 1936 مع صعود حكومة الجبهة الشعبية بفرنسا ساعتها ومع هذه الحكومة ذات التوجه الاشتراكي بدأ الأمل في الاستقلال والتحرر لكن حكومة الجبهة الشعبية هذه لم تعمر طويلاً وعاد الحلم إلى النفق وسجن بورقيبة مرة أخرى على إثر مظاهرات 8 و9 أبريل 1938ونقل إلى فرنسا وتحديداً مرسيليا سنة 1942 ومنها إلى ليون إلى أن استقر به الأسر في حصن سان نيكولا أين، اكتشفته القوات الألمانية التي دخلت فرنسا حينها فنقل إلى نيس ومنها إلى روما فتونس، حيث أعيد حراً سنة 1943 في الفترة التي بقيها في تونس شدد عليه الخناق فقرر اللجوء إلى القاهرة كمنفى اختياري ليتمكّن من التحرك والتعريف بالقضية التونسية آنذاك، حيث تنقَّل بين أمريكا وبريطانيا والسعودية التي التقى فيها الملك عبد العزيز -رحمه الله - الذي نصح بورقيبة بسياسة المراحل والتي اتبعها فيما بعد وعمل بها كما زار الهند وإندونيسيا وإيطاليا والمغرب ليعود لتونس معلناً الثورة المسلحة بعد أن ضمن تأييداً عالمياً للقضية التونسية لعل أهمها عرض القضية التونسية على منظمة الأمم المتحدة كأول قضية تحررية تعرض على أنظاره رغم معارضة فرنسا وكان الفضل في ذلك يعود أيضاً للزعيم النقابي الأشهر فرحات حشاد عودة بورقيبة وإعلانه الكفاح المسلح كان طعماً ابتلعته فرنسا التي تصرفت كعادتها بالقبض عليه مما أجَّج عليها العالم ورسخت زعامته وأصبح وجوده في سجن بتونس بمثابة الشوكة في الحلق فنقلته إلى فرنسا وبدأت التفاوض معه واستطاع وهو أسير فرنسا أن يحرِّر شعباً كاملاً منها بقوة المنطق وثقل الوزن الدولي الذي أصبح يتوافر عليه ليعود إلى تونس في 1955وتحديدا في 1 يونيو، حيث استقبله الشعب التونسي استقبالاً تاريخياً وبعد ذلك بيومين فقط يتم توقيع المعاهدة التي تمنح تونس الاستقلال الداخلي وهي النافذة الأولى نحو الاستقلال، في تلك الفترة واجه معارضة رفاق نضاله قبل خصومة ولعل أهمهم صالح بن يوسف. وواصل بورقيبة ومن معه زحفهم نحو الاستقلال التام في 20 مارس 1956 الذي تحقق بالقوة الناعمة والتضحيات الجسام لعل من بينها استشهاد فرحات حشاد والهادي شاكر وغيرهم وامتد النضال بإجلاء آخر جندي فرنسي بعد معركة الجلاء بين الجيش التونسي والجيش الفرنسي في مدينة بنزرت بالشمال الشرقي.
مسيرة الحبيب بورقيبة النضالية والتي تعمدت تعقب أهم محطاتها تعد درساً للأجيال الثورجية التي تقصر النضال التحرري على حمل البندقية وهي أسهل طريقة للانتحار على أعتاب الآخر وهو ما حصل مع القضية الفلسطينية فبورقيبة كان سهلاً عليه والنازيون يحررونه من حصن سان نيكولا الفرنسي ويعيدونه إلى تونس حراً أن يرتمي في أحضانهم ويكسب معركة ولكنه يخسر الحرب ولكن الرجل كان حكيماً على عكس القيادات الفلسطينية حينها التي ناصرت هتلر دون وعي بالتاريخ ولا بالتخطيط الإستراتيجي للتحرر، بورقيبة الذي يعتبر فلسطين قضيته الثانية فبعد الجلاء التام للمستعمر الفرنسي عن الأراضي التونسية بسنتين فقط توجه إلى أريحا يوم 3 مارس 1965 وأراد أن يورث التجربة التونسية مطالباً الفلسطينيين بالقبول بقرار التقسيم لسنة 1947 ، معتبراً أنه لو بقيت تونس متشبثة بالكل أو لا شيء لبقيت تونس مستعمرة إلى ما لا نهاية «ولو رفضنا في تونس عام 1954 الحكم الذاتي باعتباره حلاً منقوصاً لبقيت البلاد التونسية إلى يومنا هذا تحت الحكم الفرنسي المباشر ولظلت مستعمرة تحكمها باريس».
الحبيب بورقيبة الذي نعتته القيادات الفلسطينية وقتها بالخائن وأهدر دمه وتعرَّض إلى محاولة اغتيال لم يفصح التاريخ عن المدبر لها وإن كانت الشكوك تميل لعبدالناصر خاصة بعد أن وجّه له بورقيبة الخطاب مباشرة «وأدعو للمسلمين بالتكتل وللقادة بالانسجام والابتعاد عن المركبات سواء كانت مركبات النقص إزاء العدو باعتباره في منتهى القوة أو مركبات الغرور والتهور والارتماء على الهزيمة المحققة التي يمكن تلافيها بإمعان النظر».
كان هذا الكلام موجهاً لعبدالناصر في خطاب أريحا قبل سنتين من نكبة 1967 وليته وعى بما قاله بورقيبة لكان أنقذ المنطقة من هزيمة كرَّست الاستعمار وأضافت له رقعاً جغرافية لم يكن يحلم بها.الآن وبعد 35 عاماً من هذا الخطاب صارت القيادات الفلسطينية تعض أصابعها ندماً على عدم سماعها لنصح بورقيبة وأضاعت فرصة تاريخية للتحرّر والانعتاق بورقيبة الذي اتهموه بالتآمر والخيانة هو نفسه من قبل باحتضان الفلسطينيين بعد حرب بيروت مطلع الثمانينات، بورقيبة الذي خرج من الجهاد الأصغر ضد المستعمر إلى الجهاد الأكبر والمتمثِّل في بناء دولة عصرية يكون فيها الشعب متعلماً والمرأة متحرِّرة والاقتصاد حراً، وبورقيبة هو نفسه من نزع العرش العثماني من الحكم الكرتوني في تونس الذي كان تحت مسمى الباي والذي يمثّله العثماني محمد الأمين باي والذي كان خاضعاً بدوره للاحتلال الفرنسي إلى أن خلعه بورقيبة في 25 جويلية 1957 ليصبح الشعب التونسي متحرراً من استعمارين فرنسي وعثماني في أقل من سنة واحدة.. هذا هو بورقيبة الذي يحاول الإخوان الاستنقاص من صورته انتقاماً لما حصل لسيدهم الباي كممثِّل للعثمانيين في تونس سابقاً زعيم سبق عصره فلم يستمع إليه أحد.