د. جمال الراوي
في الممارسة الطبيّة؛ نُصادف بعض المرضى كثيري الشكوى والشكاية، وهم من مُثيري الاضطراب والتوتّر، وقد يخرجوننا عن طورنا، في بعض الأحيان، بسبب فقدان السيطرة عليهم وصعوبة إرضائهم؛ فيضعوننا في موقف مُحيّر، نتيجة فشل جميع الوسائط الطبية لإسكاتهم، وتهدئة شكواهم، وتسكين آلامهم المزعومة؛ لنكتشف، بعد حين، بأنّ الأمر تمثيلي أو نتيجة تركيبة نفسية قلقة وعصابية، أو يعود إلى تركيبة أسريّة وعائلية غير منضبطة، أو إلى عوامل وراثيّة، خاصّة إذا كان المريض ينحدر من عائلةٍ تتميّز بالحِدّة والشدّة في الطباع والسَّجِيَّة.
لا شكّ بأنّ المريض؛ تتأثر بُنيته الجسدية بالمرض؛ فتتداعى لذلك مشاعره وعواطفه التي تبدأ بالهيجان والاضطراب؛ فتنفرط العلاقة المتوازنة بين الروح والجسد ويحدث خللٌ فيما بينهما؛ فتبدأ المخاوف تتنامى لديه؛ خشيةً وخوفًا على جسده؛ الذي يراه وهو يخور ويتداعى أمامه، وقد بدأ يضعف، ولم يعدْ يُلبي حاجته في الحركة والقيام والقعود، وفي ممارسة أعماله اليوميّة؛ فيُصيبه القلق والخوف أنْ يكون جسده بدأ ينهار وأنّه قد يغادره ويتركه؛ حينها لا يجد المريض من وسيلةٍ سوى الشكوى والتشكي الدائم، لأنّه يعيش اضطرابًا عنيفًا وصراعًا بين جسده وروحه؛ فيجد مبتغاه في تصدير الإزعاج والتوتر إلى الآخرين من أقاربه وإلى الطاقم الطبي، ويجد في الإكثار من الشكوى والمبالغة فيها؛ وسيلته للقضاء والتغلّب على هذا الصراع بين روحه وجسده!
في حقيقة الأمر؛ تتفاوت درجات الألم، بحسب المرض وبحسب العضو المصاب، ويعدّ ألم الجلطة القلبيّة أشد أنواع الألم، وتليها آلام الأسنان وآلام حصاة الحالب، ويُقال بأنّ آلام سكرات الموت ونزع الروح هي الأشد، وهي أقوى أنواع الألم ويُقال بأنّها تعدل آلاف الضربات بالسيف! ... كما تتفاوت قدرة تحمّل الألم بحسب كلّ شخصٍ وبحسب تركيبته البدنية والنفسيّة، ويعدّ المدمنون على التدخين والمخدرات ومرضى السكري من الذين تتناقص عندهم درجة الشعور بالألم، بسبب الضمور العصبي المرافق لحالة الإدمان، فيفقدون الإحساس بالألم.
تلعب التركيبة العاطفية والاجتماعيّة والتربويّة دورًا مهمًا في كثرة الشكوى والتشكي لدى المصابين والمرضى، كما أنّ الدلال المبالغ فيه، يساهم في ذلك، فقد يصادفنا مريضٌ محاطٌ بمجموعة من أهله وأقاربه؛ يبذلون له عناية زائدة، فيبدأ بالتألم والشكوى لإثارة انتباههم؛ فترتفع تأوهاته ويتعالى أنينه المزعج؛ ممّا لا يتناسب مع حالته وشدّة ألمه، وهذا ما يدعونا للاستغراب، بينما يجدها ممن يحيطون به؛ شكاوى جديّة؛ تستدعي استنفار الطاقم الطبي؛ فنلجأ، في كثير من الأحيان، إلى إعطائهم أدوية وهمية لتسكين آلامهم المزعومة، والغريب أنّهم يستجيبون لها؛ ما لم يكتشفوا حقيقتها.
للأسف؛ تركيبةُ معظم مجتمعاتنا العربيّة هي عاطفيّة؛ لأننا نخلط بين التواصل والبرّ وصلة الأرحام وبين الالتزامات الاجتماعية؛ فتجد الجمهرة الكبيرة عند حدوث أيّ حادث مروري؛ يتداعى أبناء العمومة والأقارب والأهل، للتجمّع أمام المستشفيات؛ عند إصابة أيّ واحد في حادث مروري؛ فتختلط عواطف الأهل مع أنين وآهات المصاب؛ فتجد المرافقين المتجمهرين؛ يتدخّلون في عمل الطاقم الطبي والتمريضي، وتسمعهم ينهرون ويمنعون كلّ منْ يقترب منه خشية إيذائه؛ لدرجة أنّك تجد صعوبة بالغة في إقناعهم والدفع بهم بعيدًا عن المريض لإكمال إسعافه؛ يعتبرون أنفسهم من أصحاب الرحمة والشفقة، وأنّك من أصحاب الشِدّة والغِلظة.
في أوربا والغرب عمومًا، وصلوا إلى مرحلة متقدمة في تهذيب عواطفهم، فتجد شكواهم على قدرها دون زيادة أو نقصان؛ يشيرون لك إلى موضع الألم ويصفونه لك بدقّة بالغة؛ يعرفون بأنّ الأمر لا يتطلّب استرحامًا ولا استعطافًا، وأنّهم ليسوا في محكمة أو جمعية خيرية، وأنّهم يريدون علاجًا صحيحًا لشكواهم الحقيقيّة، بينما في مجتمعاتنا تختلط الممارسة الطبيّة بالمشاعر والعواطف المضطربة؛ بسبب الثقافة الطبيّة المتواضعة، وبسبب غلبة المشاعر على الحقائق؛ يبالغ المريض في شكواه ويصفها بصورة مُضلّلة؛ ظنًّا منه أنْ هذا سوف يجلب له الدواء والعلاج الصحيح!
بعض المرضى؛ هم ذوو طبيعة عصابيّة وقلقة ... أيُّ تشنج في عضلات الصدر هو عندهم جلطة صدرية أو مرضٌ له علاقة بالقلب! وأيّ ألمٍ في البطن هو التهابٌ في الزائدة الدودية! وأيّ ورم أو انتفاخ في عضو من أعضاء الجسم هو ورمٌ خبيث! وغير ذلك من أوهام ووساوس؛ تدل على اضطراب في الشخصيّة وعدم وجود توازن نفسي! ... وقد لا تترافق الشكوى مع المرض فحسب؛ فقد تصادف آخرين ممن يشكون ظروف حياتهم؛ تراهم وقد أحالوا المجالس إلى «مناحة»؛ من كثرة الحديث عن همومهم وآلامهم؛ لا يدعون فرصة لأحد، ولا يسمحون لأيّ واحد من الجالسين سوى التعليق على أحزانهم وأشجانهم! ... وكثيرًا ما نصادف من يشكو من مديره في العمل، أو من يشكو كثرة أعبائه الأسريّة، أو من يشكو زمانه وحظوظه، أو من يشكو أصدقاءه أو جيرانه أو أهل بيته، أو من يشكو من قلّة رزقه وماله! ... وقد تكثر الشكوى، أيضًا، عند أصحاب الجاه والثروات؛ الذين يشكون من الحاسدين والطامعين والمتربْصين بهم!