د. هيا بنت عبدالرحمن السمهري
قرأنا الوطن عن قرب خلال حقبة الثمانينات الغزيرة حين الانتقال المطّرد إلى رحلة تنموية محفزة لبلادنا؛ قرأناها وثيقة في كتاب بعنوان «بتوقيعي؛ حكايات من بقايا السيرة» لمعالي الشيخ عبدالله العلي النعيم أمين مدينة الرياض سابقاً وقبلها جذبتْ معاليه رائحة الغاز فمكث غير بعيد لأربعين سنة أرسى قواعدها وجمع شتاتها التشغيلي، وعادة في السير الذاتية يجذبني حضور الشهود الأحياء؛ فوجودهم يعطي السيرة حياة وحيوية، وفي نظري حتى غلاف الكتاب يحتاج إلى قراءة متمعنة ففي الصورة اجتماع مدهش حيّ لتجربة المؤلف الفاخرة، وتدشين الكتاب بإهداء فياض جميل أيضاً ينعش القارئ حين قال المؤلف:
«إلى الوطن الغالي من نفوده إلى أخدوده ومن مائه إلى مائه عرفاناً بفضله ودعاء له وإلى قادة الوطن الذين وفوا وأوفوا وإلى أجيال الوطن من التأسيس حتى المأسسة».
وبدا لنا في كل تفاصيل السيرة تعلّق فريد بالوطن في كل انتقال جديد يرصده معاليه.
ولقد تشرفتُ بالكتاب إهداء من المؤلف الشيخ عبدالله النعيم مشكوراً؛ فتوقعتُ أن تستقبلني نمطية السيرة الذاتية التي قد تعوزها القوة؛ وتنأى عن المكاشفة وصراحة القائد الواثق، ولكنّ المؤلف كتب حكاياته من علو حيث حَرِص ببراعة على استقصاء ملامح الأزمنة التي عاشها فلم يكتب عن الآخر المعاصر فحسب؛ بل كان يتحدث عن تاريخ المجتمع الذي آزر النهضة وفرح بالتحضر وصفق لهما؛ كتب معالي الشيخ عبدالله العلي النعيم عن التحولات، وأرشف تفاصيلها؛ وكيف فازتْ النهضة آنذاك بشخصه المتميز ليسهم في إتمام مساراتها، وعّرج معالي الشيخ النعيم في كتابه على كبوات الجواد بأسلوب شيّق رشيق يخلو من الأوار والتعليل؛ واللافتُ أن المؤلف أبدع كأستاذ يصحح حضوره وتحضيره؛ ثم يستأنف المسير دونما نكوص، فكانت هناك ينابيع من المنجزات تفيض وتندى، وفي عموم الكتاب قلّد المؤلف نفسه وسام القدوة والنموذج الوطني الحي دونما قصد إليه!
فعندما يطّلع الأجيال على هذه السيرة؛ وهم مقبلون على العمل والأمل، فسوف يجدون وافراً من التجارب التي ستضيء لهم الطريق فشخص في قامة وخبرة معالي الشيخ عبدالله العلي النعيم، قد أهّلته شخصيته وشجاعته وذكاءاته المتعددة لمعالجة كثير من المهام، وأكسبته حُزماً من النجاحات!
ومن ينتقل مع المؤلف بين صفحات السيرة يتوارد إلى ذهنه حكاية (مدمن القرع الذي حتماً يلج الأبواب) لأن سيرة معاليه قراءةً وتأملاً واستنتاجًا، وما راده من محطات العمل الصغيرة ثم الكبيرة بدءا من بدايات التعليم في نجد إلى قيام جامعة الملك سعود وقبلها عناوين صغرى في عنيزة أرضه الحبيبة التي احتضنت بداياته في أسواقها ومن ثم في مدارسها، ومواقف تترى في مسيرته الوظيفية، كل ذلك ارتقى بخبراته وأكسبه الكثير من الثقة والدعم اللا متناهي من ولاة الأمر وقصة تعيينه أمينا لمدينة الرياض في عهد الملك فهد رحمه الله إبان كان الملك سلمان حفظه الله أميرًا للرياض من شواهد الكتاب المضيئة ففي ثنايا القصة حلم وعزم وفهم وتجربة إدارية ثرية تستحق الوقوف والتمعن؛حيث استوفى معاليه مراسي القيادة المنتجة من خلال المهارة في صياغة القرار وبناء أركانه والشجاعة في استصداره والقدرات المبهرة على تنفيذه.
وفي الكتاب حظي الشيخ عبدالله العلي النعيم بكم غزير من مهارة الاتصال بنكهة خاصة جدا؛ يردفها نمط إداري خاص أيضاً وتجربة إدارية تجاوزت السبعين عاماً، وجدية الرجل وعزائمه الصلبة وجرأته الفاعلة؛ وفي الكتاب مواقف متعددة تؤكد تلك الصفات، ومواقف طريفة تحقق أحياناً الأهداف التي يسعى إليها لتأسيس العمل ومأسسته.
والكتاب في عمومه ووفق وسمه (بتوقيعي) هو نتاج تجربة حقيقية طويلة حافلة بالمسؤوليات والتحديات وتعددية المنجزات، وممكنات النهوض وصناعة الأعمال العظيمة في الأجهزة الخدمية المرتبطة بالناس، ومن ثم كان لصاحب السيرة اتصال واسع غزير بواجب المجتمعات واحتياجهم الثقافي والنفسي فقاد معاليه منظومة تنوير ثقافي اهتزت وربت وآزرتها مراكز تنمية مجتمعية ألبسها المؤلف من حلل عقله الذي قاد به القطاعات الحكومية قبل تقاعده فوضع لها نظاماً مؤسسياً يقوم على النفع العام والاستدامة فأصبح نجاح معالي الشيخ عبدالله العلي النعيم سبقٌ يُراهنُ عليه!