عبد العزيز الصقعبي
عندما نذكر كلمة صحف أو صحافة مباشرة يتبادر إلى ذهننا تلك الجريدة الورقية ذات الصفحات الكبيرة. تلك الأوراق كان لها من الأهمية ما يجعل كل من يقرأ ويكتب يحرص على معرفة ما يحدث في العالم من خلالها، فهي نافذة للمعرفة والمتعة والإحاطة بكل شيء. وتلك الأوراق وسيلة للاطلاع على الآراء المختلفة، إضافة إلى كونها قناة للمؤسسات الحكومية والخاصة لإيصال صوتها. الأجيال التي جاءت بعد الألفية الميلادية الأخيرة لا يعرفون مطلقاً أهمية الصحيفة الورقية، وبالذات عندما تنشر أسماء الناجحين. وهذا مثال بسيط. والدولة تنشر أوامرها وقراراتها عبر الجريدة الرسمية. ونحن نعرف أن جريدة أم القرى هي الجريدة الرسمية للمملكة العربية السعودية، التي مضى على صدورها قرابة القرن.
حين نتحدث عن الصحافة وأهميتها لعشرات السنين نحتاج إلى وقت طويل، ومساحة أكبر. ولكن، وحتى لا أقع في تكرار ما قد يُقال ويُذكر في احتفالية مرور قرن على الصحافة السعودية، وبالطبع الحديث سينصبّ حول صحافة الأفراد، ثم فترة الدمج، وبعد ذلك نظام المؤسسات الصحفية، سأتحدث عن علاقتي بالصحف والصحافة. وأنا هنا ربما أمثل شريحة من جيلي.
ففي زمن سابق كانت الصحيفة غالباً تكون ثالث ما يُجلب للبيت يومياً مع اللبن والخبز. أغلب الناس ممن مَنّ الله عليهم بالتعلم يحرصون على شراء صحيفة أو أكثر لمعرفة أخبار العالم. وأغلب الموظفين لا يغادر مكتبه إلى بيته إلا وهو يحمل معه صحيفة أو صحفًا عدة، وبالطبع بعض المجلات. وعدد الصحف يحدده المركز الوظيفي؛ فإذا كانت وظيفته قيادية فحتماً سيحصل على جميع الصحف والمجلات، وإذا كانت وظيفته متدنية فسيكتفي بصحيفة أو اثنتين، ويأتي بهما لبيته بفخر كحق مكتسب له. كنت أنا ممن ينتظر والده وهو يحمل عدداً من الصحف والمجلات وهو عائد من عمله. تأثيرها غير مباشر، ولكنه محفز لمعرفة ماذا يحدث، وما هي آراء الآخرين. وكما في العالم أجمع، كل مدينة أو منطقة لها صحفها الخاصة؛ فصحف الغربية لها حضورها في مكة والمدينة وجدة والطائف وما حولها، بينما تبقى الوسطى لها صحفها، والشرقية أيضاً لها صحفها، أو تحديداً صحيفتها. وربما نظام المؤسسات الصحفية نظم عدد الصحف ومواقعها، على عكس ما كان من صحافة الأفراد التي تعتمد على مكان معيشة صاحب الصحيفة.
حين بدأت علاقتي بالصحف كانت الثقافة والأدب لها حيّز معقول في صفحاتها، ولكن ليس مثل ما كنا نسمع عنه في زمن صحافة الأفراد؛ إذ إن تلك الصحف غالباً تنحو إلى الأدب؛ لأن أغلب من يشرف عليها من الأدباء. عموماً صفحات الأدب، وتحديداً الملحقات الأدبية، كانت بوابة لي للدخول لعالم الأدب، وفقاً لميولي. وأنا هنا أمثل شريحة معينة محدودة؛ لأن الشريحة الأكبر ممن يحرص على شراء الصحف وقراءتها يهمه الشأن السياسي والاقتصادي والشأن العام، وبكل تأكيد الشأن الرياضي. ومع الزمن بدأ الشأن الثقافي يكون في آخر الاهتمامات، ولكن له أهله، وأنا منهم.
علاقتي بالصحف والمجلات قويت مع حبي للقراءة، وحرصي على أن أرى اسمي منشوراً في إحدى صفحات صحيفة يومية أو مجلة أسبوعية؛ فكانت محاولاتي الأولى من خلال صفحات القراء، بكتابة بعض الخواطر البسيطة والآراء الأبسط. في البدء تم الاعتذار عن عدم النشر من خلال ردود القراء. لا بأس؛ اسمي أخذ حيزاً في المجلة. ثم بدأت أعي ما أكتب؛ لأنشر أول قصة لي في جريدة المدينة، وقد سبقها نشر بعض القصص في رسالة الجامعة، ولكن هذه ليست ممارسة صحفية. وقد تحقق لي ممارسة العمل الصحفي البسيط الذي يدخل ربما ضمن نطاق الصحافة، وكان عبر المشاركة بالتحرير بمجلة كلية الآداب جامعة الرياض (جامعة الملك سعود حالياً) في أواخر السبعينيات الميلادية، وشعرت بالفخر لحصولنا على المركز الثاني، ولاسيما أن مشاركتي بالمجلة كانت بإجراء حوار مع سكرتير النادي الأدبي الصديق القاص محمد الشقحاء. كانت هذه أولى الخطوات للعمل محررًا ثقافيًّا. ابتعدت قليلاً عن الفعل الصحفي، واكتفيت بما أنشره في الصفحات الأدبية من إبداع قصصي ومقالات حول الشأن الثقافي؛ لأشارك في ملف نادي الطائف الأدبي (سوق عكاظ) ضمن هيئة التحرير. وحين انتقلت إلى الرياض عدت إلى دائرة المجلات الثقافية لأشارك سكرتيرًا للتحرير لملف التودباد في جمعية الثقافة والفنون، إضافة إلى مساهمتي في النشرة التي تصدرها مكتبة الملك فهد الوطنية؛ لأصبح بعد زمن رئيساً لتحريرها، إضافة إلى رئاستي تحرير نشرة المستخلصات قبل إيقافها، ولأساهم في مجلة جمعية المكتبات والمعلومات السعودية، ثم مجلة التسجيلة التي كان لي شرف المساهمة في إصدارها عن مركز الفهرس العربي الموحد تحت إشراف مكتبة الملك عبد العزيز العامة. وربما هذه التجربة مهمة لكونها متعلقة بالصحافة المتخصصة؛ إذ تخاطب شريحة معينة من القراء، وتسعى إلى توسيع تلك الشريحة؛ لتشمل الجميع من خلال بث ثقافة معرفية عن المكتبات والمعلومات.
في أوقات كثيرة أفضّل ممارسة العلاقة مع الصحافة عن بعد، ولكن في أواخر التسعينيات الميلادية، وبعد عودتي من أمريكا، وحصولي على درجة الماجستير، كان لدي الرغبة بممارسة العمل الصحفي، وبالذات في المجال الثقافي. بدأت بنشر مقالات عدة في جريدة الجزيرة، ثم سنحت لي فرصة العمل محررًا في مجلة اليمامة في القسم الثقافي، إضافة إلى بعض الأقسام الأخرى بالطبع بعيداً عن السياسة والاقتصاد والرياضة، ثم انتقلت إلى جريدة الرياض لأستفيد من تجربة الأستاذ سعد الحميدين في الملحق الثقافي، إضافة إلى الصفحات الثقافية، مع استمرار كتابة زاويتي الأسبوعية التي اخترت عنوان «ضوء» لها. غادرت العمل الصحفي اليومي إلى الشهري بعد أن قطعت شوطاً في عملي مع المجلة العربية التي وُفّقت لأصبح مديراً للتحرير بها.
ربما عملي الآن في المجلة العربية يأتي من الحرص على بقاء الحضور الصحفي الورقي والإلكتروني؛ فنحن نعيش في زمن حزين ومؤلم للصحافة. كثير من الدوريات الثقافية والأدبية المهمة توقفت، ولم يتبقَّ إلا تلك المجلات التي تجد من يسندها لكي لا تقع، وكذلك الصحف اليومية، والمجلات الأسبوعية. والجميع يذكر التنافس بين الصحف وكذلك المجلات إلى ما قبل سطوة الرقمي على العالم. الآن وضع الصحف - كما قلت - حزين ومؤلم؛ لا أحد يرغب في الحصول على نسخة ورقية. تقلصت الصحف حجماً، وقلّت عدد صفحاتها. انعدمت أماكن بيع الصحف والمجلات؛ فأصبح الحصول عليها كالحصول على سلعة نادرة. أتمنى ألا نستعجل بإعلان الصحافة الورقية. المشكلة الآن في عالم الصحافة أن من يتابع الصحافة الورقية أصبحوا قلّة، والأكثرية يفضلون الرقمي عبر الحواسيب والأجهزة المحمولة والكفية. وجزء كبير من هذه الأكثرية - للأسف - لا علاقة لهم بالقراءة، ولم تكن مطلقاً همهم الأول. أتمنى أن يُحتفظ بحق الأقلية. وتوجد مواقع مخصصة لبيع الصحف والمجلات الورقية إضافة إلى الكتب، وبالطبع مع الحضور الإلكتروني.
أعود للمحرر الثقافي، في زمن سابق كان أغلب المحررين بالصحف لهم اهتمام أدبي، وبالطبع كانت ثقافتهم جيدة لحرصهم على القراءة. مع تغير الزمن ابتعد كثير من الصحفيين عن الثقافة والأدب، وركزوا على قدراتهم الصحفية، واهتماماتهم بالشأن العام أولاً، والسياسة والاقتصاد والرياضة، وأصبحت الصفحات الثقافية الحلقة الأضعف في الجريدة؛ فهي الضحية الأولى عند وجود إعلان أو تغطية مناسبة عامة. والعذر أن من يتابع تلك الصفحات أقلية، والآن من يتابع الصحف الورقية أقلية. هل انقلب السحر على الساحر؟ عموماً الوضع عالمي، وجائحة كرونا ساعدت على غياب الصحف الورقية خوفاً من أن تكون وسيلة لانتشار الفيروس؛ إذ تتناقلها الأيدي.
وبالنسبة للتحرير الثقافي أذكر أن أحد الزملاء قال لي: أنتم لستم إعلاميين، أنتم أدباء تعملون بالصحافة. وحقيقة، هذه ملاحظة انتبهت لها منذ مدة؛ فكاتب المقال الثقافي لا يدخل ضمن كتّاب الرأي، ولا يتم التواصل معه ككاتب رأي، بل أديب. والمحرر الثقافي أيضاً لا يدخل دائرة الإعلامي. عموماً، بلاط الصحافة رحب للجميع. وحقيقة، الحديث عن هموم الصحافة، وبالذات الصحافة الثقافية، واسعٌ ومتشعب، ولكن لحسن حظي أنني حين مارست العمل الصحفي في مؤسسة اليمامة الصحفية كان ذلك في زمن الأستاذ تركي السديري - رحمه الله -، والآن وأنا أطل عبر المجلة الثقافية بجريدة الجزيرة، التي يشرف عليها الصديق الدكتور إبراهيم التركي، أواصل ممارسة العمل الصحفي، ولو كان كتابة عن بُعد في جريدة الجزيرة بحضرة الأستاذ خالد المالك - أطال الله بعمره -، الذي تحدث كثيراً، وحارب لإنقاذ الصحافة عموماً، والصحافة الورقية خصوصاً. نحن جميعاً محاربون، ونحن نكتب، ونمارس العمل الصحفي، فلا غرابة أن تكون الصفحة الأخيرة في مجلة الحوادث اللبنانية - إن لم تخني الذاكرة - تحت اسم «استراحة محارب».
نحن نحتفل بمئوية الصحافة في المملكة، وأتمنى ألا يكون هذا الاحتفال للوداع، بل لعودة الروح لها مرة أخرى.