د.سهام صالح العبودي
في عام 1343هـ وفي كلمة الافتتاح لـ(أم القرى) أوَّلِ صحيفة في العهد السعودي ساقت الصحيفةُ واحدًا من أهداف إنشائها وهو أن تكون الصحيفة «واسطة للتفاهم بين العالم الإسلامي وهذه الفئة من العرب المسلمين فنُظهر ما عند القوم ليعرف الناسُ حقيقة الأمر»، تلك الطائفة كانت هي الطائفة المنصورة التي دخلت مكَّة، ودالَ لها الأمرُ حتى ظهر صوتها، وبان أمرها، كانت طائفة الحقِّ تحتاج إلى وسيلتها لإيصال صوت الحقيقة، فكانت تلك الصحيفة المولودة تحت ظلال العهد الجديد هي الصوت الذي واكب الفتح التاريخي العظيم، والتحوُّل الكبير الذي شهدته شبهُ الجزيرة العربيَّة.
ثمةَ مبدأ نقيٌّ وشفاف اختطَّته الصحيفة لنفسها في هذا اللقاء الأوَّل مع قرَّائها إذ ختمتْ كلمة البدء تلك بدعوة تُخلِص فيها لفكرة وجودها: أن تكون صوتًا ذا اتجاهين: «ونطلب من جميع من يرى في أمرنا ما يأخذُه علينا أن يكتبَ لنا بما يرى فإن أقنعَنا بالحجة وأبان لنا خطأنا رجعْنا عنه»، تلك دائرة متسعةٌ من المشورة التي لا تأنف فيها الصحيفة أن يشاركها صوغَ الحقيقة قلمٌ شريف، ولا أن يُقيل عثرتها عقلٌ متفحِّص أريب، جملة قصيرة تضع الأسس الأولى لعالم الصحافة: ديموقراطيَّة الصوت التي تكفل الجلاء والوضوح، وتتقبَّل الرأي الآخر، وتدرك أنَّ الخطأ إنما يُمحى ببصيرة الاعتراف به، وفضيلة الرجوع عنه.
وفي عدد الصحيفة السادس بعد الأربعمئة تتحقَّق أمثولة (قبول الرأي) حيَّة على مستوى الدولة لا محيط القرَّاء فحسب؛ إذ حمل هذا العدد الأمر الملكي القاضي بتغيير اسم هذه البلاد من (المملكة الحجازية النجدية وملحقاتها) إلى (المملكة العربيَّة السعوديَّة): «بعد الاعتماد على الله وبناءً على ما رُفع من البرقيات من كافة رعايانا في مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها ونزولًا على رغبة الرأي العامِّ في بلادنا»، بعض هذه البرقيات والالتماسات نشرته الصحيفة في تحقُّق مبكِّر لدورها الأكبر، ولا شيء يعطي صحيفةً قيمتَها ويركِّن حضورها أكثر من أنْ تكون جسرًا يصل صوتَ المواطن بقيادته، ثم يصله بأثر صوته متحقِّقًا فعلًا ووجودًا، ولم تغب سياسة الأبواب المفتوحة في كلِّ عهد من عهود الدولة السعوديَّة، وقد كانت صحيفة (أمِّ القرى) شاهدًا مبكِّرًا على هذه السياسة، بل أكثرَ من ذلك، وقبله كانت جزءًا من أسباب تحقيق فاعليتها؛ فأيُّ درس في ألِفباء الرأي العامِّ، وأدوار الصحافة هو أقدر على نقش نفسه في علم الصحافة من هذه الوثيقة التي بلغت عامَها المئة؟!
لا يمكننا في هذا العصر المترف بوسائل نقل الأخبار أن نتصوَّر على وجه اليقين دورًا أدته صحيفة وهي ترافق حركة دولة يبتدئ فيها كلُّ شيء جديدًا: التأسيس والبناء وصناعة النظام وخطُّ قواعد الوجود في عصر ضئيل الموارد، شحيح الإمكانات، لكنَّ (أمَّ القرى) باسمها المبارك، وغايتها الشريفة، والنيَّات الصادقة للقائمين عليها تمكَّنت من تحقيق أهدافها، ثم غدت ضوءًا أوَّل يخبر عمَّا يجب أن يكون عليه خطُّ الإعلام، وجذرُ الهُويَّة بالنسبة إلى الصحائف التي تكاثرت بعد ذلك تباعًا على مبدأ من افتراق الرأي لا التفرقة، والتجمُّع المتنوِّع، والباب المفتوح لكلِّ رأي إلَّا الرأي الذي يغلق أبواب الألفة والانسجام.
اليومَ -وتلك التجربة الصحفيَّة الأولى تحتفي بعامها المئة- فإنَّ ما تقوله هذه المناسبة وما تحمله من دلالات لا يخصُّ آل الصحافة وحدهم، بل يخصُّ كلَّ من في الوطن؛ فهي جزء أساسي في منظومة بناء الدولة؛ إذ كان هذا الصوت مرجعًا تاريخيًّا تتسلسل فيه البيانات مخبرة عن خطوات النشوء والارتقاء، ومعها كلُّ ما يحقِّقه الإنسان السعودي، ومنها يمكن – عبر مسافة الزمن البعيدة تلك – سبر تحوُّلات الإعلام، وصناعة الرأي العام. وفي مسافة الزمن فيضٌ ممَّا يمكن للعقل المتفكِّر أن يدركه، وتذكُّر تاريخ الصحافة السعوديَّة يقفنا عند استذكار الرعيل الأول من الكتبة والمحرِّرين، والصحيفة إذا كانت توثِّق التاريخ فإنَّ وجودها نفسه تأريخٌ لبدايات الأشياء في لحظات فريدة حصدتْها ذاكرة الروَّاد في مطلع المغامرة!
ظهرت صحيفة (أم القرى) في عدد أوَّل لم يتجاوز الأربع صحائف، لكنها كانت كافية كي تكون لافتة وطنيَّة أولى وإعلانًا لاجتماع الجهات على قلب وطن واحد، تحقُّق الوحدة: وحدة المكان ووحدة الصوت، فتح جغرافي يزامنه فتح معنوي يعي الحاجة إلى وجود (الصوت المرافق) في كلِّ خطوة لاحقة كي يكونَ ذاكرته الرسميَّة: مدوَّنة سياسيَّة واقتصادية وتاريخيَّة وثقافية، وممارسة عصريَّة تحقِّق للدولة حضورها في عالم التحديث.
لكلِّ صحيفة حكايتها، ولكلِّ صورة قصتها، ولكلِّ قلمٍ خبايا أسنَّته، تفترق الحكايات لكنَّها تجتمع على قيمة الحقيقة، وعلى ممارسة المشاركة، وعلى وظيفة غرس الوعي ونزع الجهالات، والأوهام.