د. إبراهيم بن محمد الشتوي
كان الحجاز قد أخذ بحظه من الصحافة في العهد التركي ثم الهاشمي خاصة صحيفة القبلة التي لقيت عناية خاصة من قبل الشريف حسين، وحين دخل الملك عبد العزيز الحجاز أبقى الإرث الصحفي على ما هو عليه بافتتاح جريدة أم القرى التي حلت –كما يقول المؤرخون- محل صحيفة القبلة، وزاد عليه بأن منح امتياز إصدار صحيفة أو مجلة لعدد كبير من شداة الأب والثقافة والفكر في مكة أولاً وفي عدد من الأقاليم حتى ناف عددها على ثلاثين صحيفة ومجلة. وهو عدد ليس باليسير إذا ما قيس بعدد سكان البلاد آنذاك، وعدد الذين يجيدون القراءة والكتابة فضلاً عن أن يكونوا من المثقفين أو الكتاب.
وقد كان الهدف في تأسيس هذه الصحف واضحاً، يقوم في المقام الأول على نشر الثقافة والأدب، والبعد عن السياسة. جاء ذلك في قرار منح عبد القدوس الأنصاري تصريح إصدار المنهل كما ينقله صاحب الحركة الأدبية في المملكة العربية السعودية، وفيه: «لا بأس بذلك على شرط أن يتجنب فيها أمر السياسة والاعتراضات على الحكومة، وأن لا يعترض لدولة من الدول، ولا للحوادث التي تحصل بين الممالك المستعمرة والدول، وإنما تكون في الأمور الأدبية».
فالصحافة في ذلك العهد تنهض بدور تنويري تثقيفي في المقام الأول، تساند التعليم، وتدعم موقفه، بعيداً عن إشاعة الحديث في قضايا لا تخص العامة، وليس لهم فيها مصلحة في المقام الأول.
وهو هدف يتساوق مع البيئة الحاضنة في تلك الحقبة حيث مازالت في بداية التأسيس، وتعاني من نقص في الإمكانيات والموارد حتى إن مصدري الصحف أنفسهم قبل غيرهم وجدوا حرجاً شديداً في إصدار صحفهم، يصوره بكري شيخ بقوله: «لا ذنب لصحفي إذا راح يفتش عن العامل الفني الماهر في صف الحروف، وطبع الجريدة، وإخراجها الإخراج المتقن فلم يجده، ولا حرج عليه إذا رغب في الاستعانة بالموظفين المؤهلين الأكفاء في فن الصحافة فلم يقع عليهم، ووجد نفسه أمام هواة شهرة وحب ظهور، وشباب لم يستقم القلم بين أيديهم، ولم تنضج الأفكار في رؤوسهم، ولم تصقلهم تجارب الحياة».
وإذا كان هذا حال الذين يعملون في الصحافة، فإنه ينطبق أيضاً على من يتلقى الصحافة كذلك، فهؤلاء الشبيبة الذين يصفهم المقطع السابق هم المتعلمون الذين أتاحت لهم الظروف الأخذ من التعليم بنصيب، وما سواهم أقل منهم قدرة ومعرفة.
وقد آتت هذه الاشتراطات –كما يقول بكري شيخ أمين- أكلها، فانعكست إيجاباً على الأدب، إذ صارت الصحافة ميدانه الأرحب، وهيأت له مجالاً للنشر، فكانت الصحف تمتلئ بالمقالات الأدبية والنصوص الشعرية، والقصصية والمسرحية، وكان الأدباء الشباب الذين لم يكن لهم مجال سواها، يتنافسون فيما بينهم لنشر أعمالهم، ولنيل الاستحسان من القراء الذين يمثل زملاؤهم الأدباء القطاع الأكبر منهم، ما دفع الأدباء إلى تجويد أعمالهم، ومكنهم من الحصول على المقروئية والنقد، بتحويل هذه الصحف وما فيها من لقاءات بين كتابها ومنافسيهم إلى ورش نقدية، يتحول أدبهم من خلالها إلى أدب فاعل ومؤثر، بل أدى إلى أن يجمع الأدباء ما كتبوه في الصحف ليخرجوه في كتب للناس، فيصيروا في عداد المؤلفين ذوي الآثار الخالدة.
وقد دفعت الحال التي كانت عليها الصحف، حيث كثرت طلبات إنشاء الصحف، وكثر تعثرها وتوقفها أيضاً، المسئولين عن الإعلام في ذلك الوقت إلى إنشاء نظام المؤسسات الصحفية، الذي يقوم على إنشاء شراكات بين ملاك الصحف الأولى ودمج بعضها في بعض، ليدعم بعضهم بعضاً، ويمنع الصحيفة من التعثر، وبه خطت الصحافة خطوات نحو العمل المؤسسي، وأصبح العمل الصحفي عملا احترافياً، تجاوزت فيه القيود الأولى، وأصبحت تتناول الشأن العام كما تتناول الخاص، وتعرض لقضايا تعد في الخطاب السابق من «الاعتراض على الحكومة»، كما تتناول شئون السياسة وما يحدث بين الدول إلى جانب الفن، والاقتصاد وسواها.
والأمر المهم في هذه المرحلة أنها (الصحافة) خرجت من عباءة الأدباء، لتنضم إلى مثيلاتها في العالم، إذ تصبح فيه الصحافة حقلاً مستقلاً قائماً بذاته له مواضعاته، ووظيفته الخاصة، وهو ما انعكس على الأدب في الصحافة، فأدى إلى انكماشه في صفحة أو صفحات محددة تصدر في الأسبوع مرة أو لا تصدر.
والغريب في الأمر أن عدداً من دارسي الأدب السعودي يعدون مرحلة «المؤسسات الصحفية» نوعاً من الارتداد عن الحريات، والتضييق على الصحافة، وهو ما سبب فتور الأدب السعودي في هذه المرحلة، الذي كان مزدهراً في صحافة الأفراد حيث مثلت الرافد الأول للأدباء الشبان، ولأدبهم، ولم يدر في خلدهم أن هذه الحالة التي كانت عليه الصحافة في تلك المرحلة، والأدب فيها إنما هو استجابة لشروط مرحلة أملت قصر الصحف على الأدب، واستجاب لها أصحابها بأن فتحوا الباب على مصراعيه للأدباء الشباب يجربون أقلامهم، ويحدون أفكارهم، ويتثاقفون مع ما يلقى إليهم من كتب وصحف عربية ومهجرية كتبها كتاب قد اكتملت تجربتهم الأدبية والعلمية، واستوت حرفتهم على سوقها.
ولا يبعد أن يكون هذا هو غاية المسئولين حين أذنوا بهذا العدد الكبير من الصحف والمجلات، فغايتهم أن تكون بمثابة الفضاء الذي يتدرب فيه ناشئة الأدب والثقافة، ويتبارون حتى تشتد سواعدهم، ويقوى عودهم.
وأياً ما يكن، فقد آتت تلك المرحلة ثمارها، وأنتجت أدباً وفكراً احتفظت تلك الصحف فيه، وصدر بعضه في كتب، وأرخ لمرحلة لم يكن لها أن تؤرخ في مجال الفكر والثقافة لولا تلك الصحف، وجهود أفرادها.