د. عبدالحق عزوزي
وأخيراً فاز المرشح الديمقراطي جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، في انتخابات فريدة من نوعها لا من حيث الظرفية الصحية والاقتصادية الاستثنائية الوطنية والعالمية ولا من حيث نوعية الفاعلين المشاركين في حلبة الصراع السياسي، ولينهي جو بايدن بذلك طموح منافسة دونالد ترامب في البقاء على رأس الولايات المتحدة لولاية ثانية.
اختار إذن الناخبون الأمريكيون في السباق الرئاسي الرئيس الجديد، بتصويتهم لصالح المرشح الديمقراطي الذي حصل على أصوات أكثر من 270 من كبار الناخبين، وهو الرقم الضروري للفوز بالانتخابات الرئاسية الأمريكية كما سبق وأن تحدثنا عن ذلك في مقالة سابقة بهاته الصحيفة الغراء.
والرئيس الجديد معروف بطيبوبته ومثابرته وتعاطفه مع الآخر؛ ويرجع ذلك إلى أصوله العائلية، فهو يذكر دائماً والده، الرجل الذي عرف الثروة والفقر، والذي عمل بجهد كبير، تارة في تنظيف الأفران وأخرى في بيع السيارات المستعملة، حتى يجد لعائلته مصاريف الحياة الصعبة... وهو دائماً ما يستحضر خلال تجمعاته مقولة والده له: «يا بني، لا يصنف الرجل بعدد مرات فشله وسقوطه أرضًا بل بسرعة نهوضه»، وهي نصيحة تبناها جو بايدن الابن سريعًا.... في الثالثة عشرة من عمره، انتقلت أسرته للعيش في ولاية ديلاوير. وفي عام 1968، حصل بايدن على شهادة في المحاماة ليصبح بسرعة محاميًا أمام المحاكم في وقت شهدت فيه الولاية سلسلة من أعمال الشغب والاعتقالات على خلفية مقتل مارتن لوثر كينغ.
وعندما كان في الـ29، قرر أن يلج حلبة الصراع السياسي وأن يتخذ من السياسة دربًا له واستطاع، بشكل مفاجئ، التغلب على السيناتور الجمهوري المنتهية ولايته آنذاك عام 1972 ليصبح بايدن خامس أصغر سيناتور أمريكي في التاريخ.
كما أن الرئيس الجديد ابتلي بمصائب عائلية عدة منها وفاة زوجته نايليا وابنته ناعومي في حادث سيارة، كما أصيب ابناه صغيرا السن بو وهانتر بجروح. وبعد هذا الحادث المأساوي كاد بايدن يتخلى عن مقعده للعناية بابنيه المصابين، لكن زملاءه أقنعوه بإكمال عهدته. وبالفعل أدى بايدن القسم بجوار سرير ابنيه في المستشفى.
وبسبب الحادث، اضطر بايدن أن يعود يوميًا بالقطار إلى منزله في مدينة ويلمنغتون بولاية ديلاوير بعد إنهاء دوامه في واشنطن. وحافظ بايدن على هذه العادة طوال مسيرته المهنية في مجلس الشيوخ، مما أكسبه لقبًا آخر وهو «أمتراك جو» (نسبة لشركة الخطوط الحديدية الأمريكية). وبالرغم من قسوة الفاجعة، إلا أنها لم تكن المأساة الأخيرة في حياة بايدن فخلال ولايته الثانية كنائب للرئيس أوباما توفي ابنه بو الذي كان مدعيًا عاماً في ديلاوير، عام 2015 عن عمر 46 عاماً بعد صراع مع سرطان الدماغ.
أضحت الانتخابات الرئاسية بالنسبة لجو بايدن «معركة من أجل روح الأمة»، وهي مقولة كررها في مناسبات عديدة. وعندما سئل على شبكة سي إن إن في سبتمبر/أيلول الماضي عما إذا كان يعدُّ نفسه «نقيض دونالد ترامب تمامًا»، لم يسعه سوى الابتسام قائلاً: «آمل ذلك».
إذن نجح جو بايدن في إقناع الناخبين بأنه يملك الإستراتيجية والخبرة والتجربة السياسية لمحو آثار ما خلفه حكم ترامب على البلاد. وبدأ استعداداته لانتقاله إلى البيت الأبيض مع التركيز على ملفات عدة، محددًا أولويتين هما مكافحة وباء «كوفيد- 19» وإعادة توحيد بلاده المنقسمة. ويعتزم بايدن أيضاً إلغاء انسحاب واشنطن من منظمة الصحة العالمية وإعادة الولايات المتحدة إلى اتفاق باريس للمناخ وإلغاء المرسوم المتعلق بالهجرة الذي يحظر دخول مواطني دول عدة ذات أغلبية مسلمة إلى الأراضي الأمريكية؛ ثم إنه من الأكيد أن تضم إدارة بايدن ممثلين للجناح اليساري للحزب والوسطيين وربما بعض الجمهوريين.
ولكن يقيني أن مهمة الرئيس الأمريكي الجديد ستكون جد صعبة في معالجة الانقسام الحاصل في المجتمع الأمريكي، بعد معركة انتخابية شرسة؛ فأولئك الذين منحوا أصواتهم لترامب، يتعدى عددهم 70 مليون شخص، وهم يمثلون كتلة واسعة في المجتمع الأمريكي، ويرتبطون بصورة وثيقة بشخصية ترامب وسياساته، التي أرساها خلال فترة حكمه التي امتدت أربع سنوات فيما يعرف بـ»الترامبية».
وهذا الإرث الترامبي لم يطبع الحزب الجمهوري الأمريكي بطابعه الخطير فحسب، بل أسس لشعبيّة ستظل، على الأغلب، فاعلة ومؤثرة لسنوات طويلة مقبلة.